استيقظ مستبشرة.. نهار جديد..شمس جديدة..يقرع الباب .. فتمتد يد بفاتورة.. أبحث عن العوينات.. ويصطاد الرقم المدون والمطلوب فرحة النهار الأولى..أحيانا ألقيها فورا في صندوق المطالبات الشهرية تنتظر دورها في التسديد..لأستبقي الابتهاج بطلوع شمس جديدة.. أدير التلفاز وأبدأ بصنع قهوة الصباح.. يأتيني صوت رفيع حاد يسأل الضيف التلفزيوني:دكتوووور كيف ممكن نخلي اولادنا يقرأوا / أشك بأنها أمسكت كتاب بعد آخر امتحان في الجامعة / فأدلق القهوة في الفنجان.. بعد أن أخفض من صوت هذا الجهاز العجيب.. تمتد يدي بتردد إلى الأزرار المختصة بتدفئة المكان.. ماذا لو نضب الوقود؟ نبهني بالأمس حارس البناية بأن علي أن أملأ خزان السولار.. فأستدير لأفتح الستائر.. تنتشر أشعة الشمس في أنحاء غرفة الجلوس..هكذا أفضل.. أهمس لنفسي.. تبدأ المتاجر الجوالة بالنداء.. أثاث للبيع.. كوسى بندورة .. سيمفونية الغاز تتوقف في منتصف الشارع.. صوت ارتطام قوارير الغاز مع استمرار موسيقى الجاز.. عفوا الغاز!شاب فحل يدوخ سيارة.. صرير وغبار يمتزج برائحة بنزين نيء..أرفع من صوت التلفاز.. فينشج الباكي الشاكي.. وحوله تحوم جنيات الفيديو كليب..فأقرر البحث عن السكينة في محطة فضائية تبث تلاوة هادئة لأيات من القرآن.. أتذكر أن هناك أوراق يلزمني تحضيرها لاجتماعات بعد الظهر.. أفتح جهاز الكمبيوتر.. أبحث عن المادة المطلوبة.. ألقي نظرة على الطابعة.. لابأس سأنقل المواد إلى الذاكرة الصغيرة التي تشبه "ولاعة" ليس هناك من ورق.. رغم استخدامي لوجهي الورق في معظم الأحيان...أنتهي من قهوتي.. وأبدأ بالاستعداد للخروج من البيت..أحمل أوراقي وحقيبتي وأغادر البيت.. أشير لسيارة الأجرة.. يفتح السائق النافذة سائلا بفجاجة: إلى أين؟: أين تريدني أن أذهب.. ؟ذاهبة إلى عملي.. ماذا يضيرك أين يكون.. طالما أنت اخترت أن تعمل على سيارة أجرة..إذا كان لدي متسع من الوقت..أرفض المساومة.. أما في حالة اضطراري الوصول في وقت محدد.. فأتساهل وأجيب.. سأدفع نصف دينار زائد العداد تعويض عن الأزمة.. هل يناسبك ذلك..!!في الطريق.. على مقربة من الدوار الخامس، تطير كاسات بيبسي بلاستيكة وأكياس ملوثة انتفخت بمخلفات الوجبات السريعة من سيارة هامر سوداء فاخرة، في الشارع الموازي لأمانة العاصمة في راس العين.. ستنط حافلة كوستر من رصيف لآخر..الإشارة حمراء عند طلوع المصدار.. أبحث عن الرجل المشغول دائما في سحب الخيط من مكان أعتقد أنه وهمي..قيل لي أنه كان يمتهن الطب...! يتعالى النفير..وتندفع السيارات.. لا أحد يرى من أمامه وليس هناك من يلتفت إلى من خلفه أو جواره.. الجميع منشغل، إما بالحديث بالخلوي أو بكتابة رسالة.. أو سابح في شرود عميق...
البحر الشامي، الإسم الذي أطلقه الشريف الإدريسي العالم الجغرافي العربي، على ما عرف فيما بعد بالبحر الأبيض المتوسط، أحببت الاسم وأطلقته على مدونتي.
السبت، 18 أبريل 2009
قصاصات.. وأشياء أخرى
عليه أن يحزم ملابسه الآن ، وينظر في مجموعة الحقائب والصناديق التي خلفتها زوجته ورائها بعد أن غادرت ومعها الأطفال الثلاثة ، حيث أنتهى من نقل بعض قطع الأثاث إلى البيت الجديد .
مجموعة ملابس وأحذية ، جوارب ومعاطف كبر عنها الصغار منذ سنوات ، معطفها الشتوي الأخضر ، صندل وبعض الحقائب النسائية ، كم هي مغرمة في اقتناء الحقائب.
انبعثت في الغرفة رائحة غريبة ، مزيج من عطر وعطونة!
أشعل لفافة تبغ ، مد يد نحو كوب القهوة.
: هكذا أنت دائما تنسى قهوتك لأعود إلى تسخينها لك. جاءه صوتها .لا يهم سيشربها باردة.
احتضن الحذاء الرياضي الصغير.
أراد شراء قميص لنفسه ، لم يستطع تجاوز محل الأحذية حين لمح الأحذية الصغيرة.
توسل اليه ابنه أن يشتري له واحدا ، أجابه يومها : لا يوجد نقود.
إلا أنه في ذلك اليوم تسمر أمام المحل ، كيف سيدخل البيت ومعه مشتريات جديدة له ، سيشعر بالخجل من الصغير ، عاد إلى البيت بالحذاء من غير قميص. حسنا الآن سيسعد ابن الحارس به.
مغلف من الورق ، امتلأ بالقصاصات بألوان مختلفة ، بعضها كتب على نصف ورقة وبعضها على ورق مسطر من دفاتر المدارس ، والبعض الآخر ملون مقتطع من ورق لا يذكر مصدره الآن.
"بابا اسمح لي أن أذهب غدا بعد الانصراف من المدرسة مع صديقتي إلى بيتها "
"بابا اترك لي نصف دينار لو سمحت ، لأن معلمة الرسم ستأخذنا لزيارة معرض للرسم"
قصاصات بخط متلعثم وأخرى بلغة غير العربية.
" عد باكرا غدا ، سأذهب إلى السوق لأشتري بعض الهدايا لأمي وأخوتي قبل السفر"
عمله الخاص لم يكن يتيح له العودة للبيت في وقت مبكر ، وغالبا ما يكون الصغار قد أخلدوا للنوم وقد يغادر مبكرا في الصباح.
" لم أجد دجاج صغير ، تصرفي أنت " قصاصة مكتوبة بخط يده ، كانت ترفض أن تشتري حاجيات البيت ، رغم أنها جاءت من بلاد تؤمن بالمساواة ورفضت أن تعمل ، رغم أنها تحمل شهادة تؤهلها للعمل براتب مجزي ، فكان عليه أن يعمل ليل نهار لكي يؤمن لأسرته العيش في مستوى لائق.
كم يشتاق للثغة الصغير ، سيهاتف المحامي غدا ليتقدم بطلب لرؤية أطفاله.
شال وقبعات صوفية مشغولة يدويا ، حاكتها أمه لعروس ابنها الشقراء وطفله الأول.
جمع الحاجيات في صندوق كبير سيعطيها لأسرة حارس البناية غدا ، لف مشغولات أمه بعناية ، وضعها في حقيبة ملابسه مع مغلف الرسائل الداخلية وغادر !
مجموعة ملابس وأحذية ، جوارب ومعاطف كبر عنها الصغار منذ سنوات ، معطفها الشتوي الأخضر ، صندل وبعض الحقائب النسائية ، كم هي مغرمة في اقتناء الحقائب.
انبعثت في الغرفة رائحة غريبة ، مزيج من عطر وعطونة!
أشعل لفافة تبغ ، مد يد نحو كوب القهوة.
: هكذا أنت دائما تنسى قهوتك لأعود إلى تسخينها لك. جاءه صوتها .لا يهم سيشربها باردة.
احتضن الحذاء الرياضي الصغير.
أراد شراء قميص لنفسه ، لم يستطع تجاوز محل الأحذية حين لمح الأحذية الصغيرة.
توسل اليه ابنه أن يشتري له واحدا ، أجابه يومها : لا يوجد نقود.
إلا أنه في ذلك اليوم تسمر أمام المحل ، كيف سيدخل البيت ومعه مشتريات جديدة له ، سيشعر بالخجل من الصغير ، عاد إلى البيت بالحذاء من غير قميص. حسنا الآن سيسعد ابن الحارس به.
مغلف من الورق ، امتلأ بالقصاصات بألوان مختلفة ، بعضها كتب على نصف ورقة وبعضها على ورق مسطر من دفاتر المدارس ، والبعض الآخر ملون مقتطع من ورق لا يذكر مصدره الآن.
"بابا اسمح لي أن أذهب غدا بعد الانصراف من المدرسة مع صديقتي إلى بيتها "
"بابا اترك لي نصف دينار لو سمحت ، لأن معلمة الرسم ستأخذنا لزيارة معرض للرسم"
قصاصات بخط متلعثم وأخرى بلغة غير العربية.
" عد باكرا غدا ، سأذهب إلى السوق لأشتري بعض الهدايا لأمي وأخوتي قبل السفر"
عمله الخاص لم يكن يتيح له العودة للبيت في وقت مبكر ، وغالبا ما يكون الصغار قد أخلدوا للنوم وقد يغادر مبكرا في الصباح.
" لم أجد دجاج صغير ، تصرفي أنت " قصاصة مكتوبة بخط يده ، كانت ترفض أن تشتري حاجيات البيت ، رغم أنها جاءت من بلاد تؤمن بالمساواة ورفضت أن تعمل ، رغم أنها تحمل شهادة تؤهلها للعمل براتب مجزي ، فكان عليه أن يعمل ليل نهار لكي يؤمن لأسرته العيش في مستوى لائق.
كم يشتاق للثغة الصغير ، سيهاتف المحامي غدا ليتقدم بطلب لرؤية أطفاله.
شال وقبعات صوفية مشغولة يدويا ، حاكتها أمه لعروس ابنها الشقراء وطفله الأول.
جمع الحاجيات في صندوق كبير سيعطيها لأسرة حارس البناية غدا ، لف مشغولات أمه بعناية ، وضعها في حقيبة ملابسه مع مغلف الرسائل الداخلية وغادر !
عروس
ذهب الصغير برفقة عمته في زيارة إلى بيت جده..
استمتع الصغار بحكايات الأعمام والعمات.
أرهق الصغير الذي لا يكف عن توجيه الأسئلة.. الكبار من أفراد العائلة.
تفتق ذهن العم الكبير عن فكرة يدفع بها الصغير للذهاب للنوم
: ما رأيك يا ولد أن نجوزك؟
الصغير: وأين العروس؟
العم: ليس هناك من مشكلة.. غدا إنزل عالبلد.. وابحث عن عروسك.. وإن وجدتها.. تعال إلينا وسوف نخطبها لك.
راقت الفكرة للصغير.. سارع بالذهاب للنوم
استيقظ الولد قبل العصافير
ارتدى ثيابه على عجل.. وغادر بوابة البيت الكبير في طريقه للبحث عن عروسه
أثاره صوت السكون.. وبدا كأنه يسمع صوت ذاته
كيف يمكن أن تكون عليه عروسه
لابد أن تكون هي.. من يوقظ الطيور!
وأول من تلقي عليها الشمس تحية الصباح.. لتروي بالماء نبتات ريحان اصطفت على شباك غرفتها.
بشرتها.. لابد أن لها لون الحنطة..
ولشعرها ملمس الحرير
أما ضحكتها..
مزيج من كل مافي الطبيعة من همس وصخب.. ملونة كالفراشات.. مشرقة مثل شمس الصباح
مفعمة بحيوية لا تنضب.
استيقظت العصافير على وقع أنفاسه.. ارتفع صوت الزقزقات.. بدت له صاخبة.. تخيلها تنادي على بعضها البعض.. تشير عليه.. وتتساءل عما يبحث عنه الصغير..
بدت البيوت تشرع الأبواب.. وفتيات صغيرات تدفع بالماشية لتنضم إلى قطيع الراعي..
عبق المكان برائحة الصباح
وفاحت رائحة الزعتر والخبز المحمص مع الشاي بالميرمية
أستشعر بالجوع..
سيطلب من عمته أن تعد له عروسة الزعتر بالزيت وكوب من الشاي بالميرمية.. بعد أن يجد عروسه
يتمعن في وجوه الفتيات .. يدقق في كل حركة..
نشرت الشمس ضياءها على بيوت البلدة..
اتخذ مكانه عند شجرة زيتون معمرة.. هل يعود للبيت من غير أن يجد فتاته؟
وسرح…
على صوت مزمار راعي البلدة.. وبنت تربت على كتفه بيدها وتسأل استيقظ
: هل أضعت البيت ولا تعرف كيف تعود إلى أهلك..؟
كاد أن يشهق من الفرحة.. إنها هي.. العروس ..
وقفت الفتاة مشدوهة وهو يركض باتجاه الشرق..
وصل بوابة بيت عمه والشمس تميل للغياب..
أولاد الحارة أنبأوه بغضب العم الكبير وهلع العمات عليه..
: أين كنت ياولد.. قل أولا أين أمضيت النهار؟
صراخ العم الغاضب فاجئه..
: لقد وجدت العروس وعدت لأخبرك كي تذهب لخطبتها..
انقلب الموقف.. وصار عليه أن يسارع في إحضار الماء
فقد شرق العم بالضحك.. وهو يجهد في القول
: يا ولد.. يا ولد.. لا تصدق ما يقوله الكبار!!!
رم .. جبال في كبد السماء
سكون غامض يلف فضاء لانهائي لمدينة مسحورة لم تفك طلاسمها بعد…
بنايات فارهة متعالية موشاة بنحت فريد.. تتباين في شرفاتها ومقصوراتها فن عمارة ونحت لا يضاهى.
مدرجات مطعمة بأحجار كريمة ملونة..
جداريات ولوحات تشكيلية منتقاة..
صحراء سرابها مثل شال حرير أضاعته حورية من حوريات البحر نسيجه نور استل من شعاع الشمس والقمر…
كثبان رملية تثير في النفس رغبة الغوص في تلالها الوردية…
كشهقة وليد طالع للتو من نفق العبور للحياة… يجد القادم نفسه إلى وادي رم… يغمره ضوء شمس لا يملك تجنبه.. وتنهض أمامه جبال ذات مهابة لن يرتد عنها البصر.
كتلا هائلة من البناء الشامخ المتصل أحيانا كعمارة يمنية موغلة في القدم، والمنفصل في بعض الأحيان كناطحة سحاب عصرية.. تمتد بينها صحراء ذهبية شاسعة الاتساع توشك أن تفضي إلى نهاية الأرض.. امتداد سرمدي.. وأفق مترامي تعلوه جبال شاهقات.
نقوش ومقصورات… شرفات ودهاليز برسومات متباينة الخطوط… تكاوين ومنحوتات حملت تواقيع العصور القديمة.
مدينة ليست كالمدن تبعث في النفس شهية البحث عن لغز الحياة والموت .. البعث والخلود..
جبال تشكلت من رمال وحصى سفتها الريح من اليابسة للماء، ترسبت صخورا رسوبية بتكوينات امتلأت بتجاويف ومنحنيات شقتها الأمواج وكائنات بحرية فيما مضى.. هي الآن مأوى وملاذ يتقي بها الطير والحيوان نار شمس حارقة ولسع صحراء قارص وأذى الاقتناص.
خداع بصري وسراب مضلل واحساس بالضآلة، يصيب المرء لدى اجتيازه وادي رم لأول مرة.
جبال تناطح السماء.. صحراء ممعنة في الاتساع.. وكثبان يشتعل فيها الوردي..
حالة من الخشوع لهيبة السكون وجلال المشهد…
(وحسمى أرض ببلاد الشام يعرفها من رآها من حيث يراها لأنها لا مثيل لها في الدنيا، ومن جبال حسمى جبل يعرف باسم "إرم "
…وفي أخبار المتنبي وحكاية مسيره من مصر إلى العراق قال: حسمى أرض طيبة .. تنبت جميع النبات، مملوءة جبالا في كبد السماء.)
في النهار.. سماء حين تصفو زرقتها يتسلل ضياءها للتجاويف الجبلية… وتتدلى في الليل عناقيد ضوء… وتتسابق شهب، كل يبحث عن نجمته..وتبدو القمم الجبلية.. كغيوم داكنة في سماء الوادي.
نسر يطارد سرب حمام بري.. تنفلت منه لشقوق الجبال..فتهرول سحلية.. وينتصب النسر على حافة جرف يستجمع ثقته ليواصل التحليق مجددا.
في البدء كان الماء.. وكانت الارض تجد حلولا لبذور النباتات وتكتفي بما تمنحه السماء، تروي به شجيرات الغضا والرتم والتين البري والحبق..
بعض النباتات اختار لنفسه عنوان غير ثابت.. لذا عليها أن تزهر بسرعة قبل أن تحمل الريح بذورها مع الكثبان إلى عنوان آخر….
قطرات من سلسبيل تتسلل من بين تلافيف الجبال.. ما دفع العرب الأنباط لابتناء السدود لحفظ مياه القطارات، مثل سد درج وسد البرة، فيما بعد حذا الرومان حذوهم في بناء سد الرومية وغيره من السدود، حفظت قطرات المياه للسنين العجاف..
ولا يخلو معبد نبطي من حوض اغتسال دلالة على أهمية الاغتسال والطهارة عند العرب الأنباط..
أهمها معبد اللات، وكان قد شيد في عهد الملك "رب إيل الثاني" عام 90-70 ق.م عند نبع الشلالة..
تنتشر أشجار الرتم في الوديان المنخفضة، قد تمكث بذور شجرة الرتم في الأرض ما يزيد عن ثلاثين عام إذ لم يتوفر الماء الكافي لانباتها. أما أشجار التين البري فتلتصق بالسفوح، تصنع للهواة من متسلقي الجبال ظلا يستريحون عنده.
تتباين درجات الحرارة حتى في المسافات القصيرة فتنخفض درجات الحرارة في القمم الشاهقة التي تعلو إلى 1700 م 12 درجة مئوية عنها في المناطق المنخفضة والمفتوحة بالإضافة إلى أن التعرجات العديدة والمعقدة توفر منظومة ذات خصوصية من الظلال والضوء.
تنوع المناخ ما بين الجبل والوادي أدى إلى تنوع النبات، فنبت عرعر ينتمي لمناخ البحر الأبيض المتوسط على بعض سفوح الجبال، فيما انبتت البعض شجر الطلح الاستوائي وغطت نباتات الاقليم السوداني معظم المناطق.
واحتمت نبتات العيصلان وشجيرات الغضا والرمث بالكثبان الرملية لتحتفظ برطوبة تؤمن لها البقاء.
*****************
لم تغره مدن عصرية.. إنما أغرته امتيازات رم وعاش فرادة المكان كما عاش أجداده من قبل..
وما زال ساكن رم يتصرف بعفوية ويعتاش مما تؤمنه له الأرض من نبات وطير وماشية.. يشرب من لبن الماعز والناقة ويصنع اللبن والزبد، يأكل الخبز المعد على الحطب.
يميز البدوي العشبة برائحة تنبعث منها حتى وإن احترقت.. وابتكر طبابة خاصة من الأعشاب والمعادن والأحجار الكريمة وأحيانا النار.
النار التي بقيت متقدة تحت دلال القهوة حتى هذه اللحظة..ولم يزل القضاء العشائري سيد الأحكام.
وللبداوة منظومتها الاجتماعية المستنبطة من معطيات الحياة الفريدة للعيش .. فالبدوي بطبعه يعي ضرورة أن لا يهدر الانسان الماء والكلأ.. ويحرص على ماشيته مثلما يحرص على أفراد عائلته.. ويرفض تلبية دعوة وليمة إن أعدت من لحم أنثى ولود.
يعتبر بيت الشعر المصنوع من وبر الإبل أو شعر الماعز السكن الملائم في صحراء رم.. حيث يتيح التحكم في تبديل أو إغلاق الفتحات بما يتناسب مع حركة الشمس والريح غير المستقرة في غالب الأحيان.
وحين اكتشف ابن المنطقة فرادة المكان الذي يسكنه.. برع في الترويج له.. فهو يعرف كل حبة رمل في الجبل والوادي كما يعرف خطوط راحة يده.. ومهر في تسلق الجبال بحثا عن عشبة أو دابة شاردة.. كما تعرف على كل ما خطته الحضارات القديمة من كتابات ثمودية وعربية نبطية وزخارف تحكي للقادمين تاريخ القبائل التي استوطنت أو عبرت الوادي.
ومن المعروف أن قبيلة عنزة القادمة من بلاد اليمن، استوطنت الأرض التي يطلق عليها "حسمى" والواقعة حاليا شمال المملكة العربية السعودية وجنوب المملكة الأردنية الهاشمية.. إنها بوابة التجارة بين بلاد الشام والجزيرة العربية وبوابة الحجيج فيما بعد..
شهدت أرض حسمى حضارة دولة الأنباط وقبل ذلك الثموديون ومن ثم الأغريق والرومان.. وشق الخط الحديدي الحجازي رمالها في القرن الماضي.. وصفها لورنس أجمل وصف في كتابه المسمى باسم جبل في رم "أعمدة الحكم السبعة" كما أطلق البدو على عين " أم عينية" اسم لورنس حيث كان يغتسل.
**********
هنا قد يظن القادم إلى وادي رم أن ما يراه من أعلام شاهقات سرابا… واللون في الوادي متغير، فالطبيعة سيدة الموقف…
في الليل تشع المدينة الخرافية بما يمنحها القمر والنجوم من خيوط فضية ورمادية مائلة للزرقة وتبدو الجبال مثل غيوم وصلت بين الأرض والسماء… ويمكن لمن يحب أن يستضيء بالنار أن يجد مما هو ملقى في الطريق من أغصان شجر الغضا، كانت الريح قد ذرته، نارا تدفيء وتطهو وتضيء وتطيل سهره أيضا…
عند كل شروق.. تلتمع قمم الجبال مشعة بضوء الشمس… وقليلا قليلا تضاء الممرات والدهاليز بألوان خلابة تعكس اللون الوردي تارة واللون البنفسجي تارة أخرى…. وتشق لها طريقا مضيئا على صفحات الرمل.. فتشع من الوادي الألوان.. تتمازج مثل شال نسج بخيوط من حرير.. وكلما اشتعلت الشمس التهبت الألوان.. وبدت الكثبان مثل جسد من رخام وردي.
وللجبال الوردية كثبان وردية وتنث الجبال البيضاء رمالا تشع بياضا كلما توهجت الشمس…
وتتدرج ألوان الشفق من أزرق رمادي يقترب من الفضي في بعض ساعات النهار، ومن وردي لحمرة حارة في لحظات الغروب.
أما إذا تصادف قدوم الزائر في الليل… ولم يكن القمر بدرا…
فستبدو مدينة "رم" كمدينة أطفأت أنوارها…..
تشع المدينة الخرافية نجوما لن يشهد مثلها في أي بقعة من العالم.
وحين يطل القمر على رم يحمل الوادي اسم وادي القمر بجدارة… وتبدو الجبال مثل غيوم تصل بين الأرض والسماء…
يتيح صفاء السماء في الليل ودوران القمر بغيابه وإطلالته على الوادي للمهتمين بالفلك والمغرمين بدراسة حركة النجوم والكواكب، الجو الملائم للبحث عن المزيد من الصفاء والسكينة والسكون، لن تتهيأ إلا هنا.
إنها مساحة للروح والتأمل يتميز بها وادي رم قد يدفع المرء في الغالب، إلى أن يعيد حساباته وأولوياته وربما يجد حلولا لمشكلاته..
وكلما أوغل في الوادي واستشعر الإنسان الهواء المصفى، كلما اقتربت النفس من الروح.. واستدرج إلى حالة من التأمل تصغر أمامها الأشياء…
***********
الرمل صحيفة البدوي الصباحية… فيها يقرأ نقوش خطتها أقدام العابرين من خف جمل إلى قوائم طيور وسحالي.. مما أكسبه مهارة اقتفاء الأثر.. ومكنته السماء الصافية من اقتفاء حركة النجوم والرياح.. للاستدلال على الطرق ومهاب الريح… لغايات التجارة.
حين يهب إعصار خماسيني تبدو الريح مثل مارد خفي يقتحم الصحراء كموج هائج يحمل الرمال من بقعة لأخرى… تتلاحق أمواج الرمل واحدة تلو الأخرى وتتصاعد مثل أعمدة من دخان وتحفر الريح في الجبال… فلطالما كانت الريح واحد من أهم عوامل التغيير، سواء ما كان عاصفا ومزمجرا أو ما كان منها نسيما عليلا.. فبها تتغير صفحة الجبل ليبدو بعضها مستديرا حنونا بانحناءاته والبعض الآخر قاسيا صلدا ببروزاته، فيما تتشكل زخارف ونقوش ومنمنمات على جبال كانت الرياح بها رفيقة…
تتزود الصحراء برمال حتتها وسفتها الرياح من الجبال، فتتشكل الكثبان حسبما تلقى المكان، بعضها مخروطي كهرم يغري بالتزلج، والبعض الآخر مستدير كجرن ماء… إنها الريح تجتاح الأماكن المفتوحة بكثافة وتتسلل إذا لم يكن لها منافذ… إلا أنها لابد لها أن تغير من طبيعة الأشياء.
وتحمل الريح معها بذور النباتات.. من الصحراء إلى الجبال ومن الجبال إلى الصحراء، فتعلق شجرة بسفح جبل وتزهر الكثبان في الربيع…
وتجد الروح المغامرة في رم الجبل والصحراء، الأفق الذي يتسع للوثب والقفز والتسلق مثلما يتسع للسير والتأمل في النبات والحيوان، والإصغاء لصوت السكون والصدى.
وسينصت الزائر لجبل أم عشرين ما يروى عن فتية عشرون نسج تحديهم حكاية كانت وراء إطلاق الاسم على الجبل..
وستملأه الدهشة من بروج مشيدة كبرج بردة الكبير وأم فروث الصغير… حيث يصعد "صبّاح" وصحبه من المغامرين إلى عنان السماء..
تهب الرياح.. تعصف بالشجر وتنكث الأرض.. يصفر سيق ويتردد في جنبات الوادي صدى نداءات الرعاة وحداء إبل وثغاء ماعز… وتحمل الرياح رائحة خبز طازج وحطب عطري مشتعل..
تطير بذور التين البري والرتم والحرجل من سفح لوادي لتغيب بين ثنيات التراب تنتظر تسلل الماء..
غالبا ما يغادر الزائر "لرم" بمزاج مختلف عما كان عليه قبل اجتيازه الوادي.. وربما تمنحه هذ التجربة الفريدة قدرا من الشجاعة لتعديل أو تغيير أولوياته.. فالتأمل سيستدرج الزائر الى حالة تمكنه من الانصات لصوت السكون والاستغراق في الروحانيات… إنها مساحة للروح والخشوع لجلال وسحر المشهد الذي جسدته عناصر الطبيعة الأربعة في هذه المدينة الخرافية الغامضة والمتبدلة…
ويبقى الغموض الذي يلف المكان مبعث دهشة الانسان كلما قدم إلى وادي رم !!!!!
ربيعة الناصر
22 أيار 2004
نشرت في مجلة أفكار الصادرة عن وزارة الثقافة الأردنية
العدد 218
بنايات فارهة متعالية موشاة بنحت فريد.. تتباين في شرفاتها ومقصوراتها فن عمارة ونحت لا يضاهى.
مدرجات مطعمة بأحجار كريمة ملونة..
جداريات ولوحات تشكيلية منتقاة..
صحراء سرابها مثل شال حرير أضاعته حورية من حوريات البحر نسيجه نور استل من شعاع الشمس والقمر…
كثبان رملية تثير في النفس رغبة الغوص في تلالها الوردية…
كشهقة وليد طالع للتو من نفق العبور للحياة… يجد القادم نفسه إلى وادي رم… يغمره ضوء شمس لا يملك تجنبه.. وتنهض أمامه جبال ذات مهابة لن يرتد عنها البصر.
كتلا هائلة من البناء الشامخ المتصل أحيانا كعمارة يمنية موغلة في القدم، والمنفصل في بعض الأحيان كناطحة سحاب عصرية.. تمتد بينها صحراء ذهبية شاسعة الاتساع توشك أن تفضي إلى نهاية الأرض.. امتداد سرمدي.. وأفق مترامي تعلوه جبال شاهقات.
نقوش ومقصورات… شرفات ودهاليز برسومات متباينة الخطوط… تكاوين ومنحوتات حملت تواقيع العصور القديمة.
مدينة ليست كالمدن تبعث في النفس شهية البحث عن لغز الحياة والموت .. البعث والخلود..
جبال تشكلت من رمال وحصى سفتها الريح من اليابسة للماء، ترسبت صخورا رسوبية بتكوينات امتلأت بتجاويف ومنحنيات شقتها الأمواج وكائنات بحرية فيما مضى.. هي الآن مأوى وملاذ يتقي بها الطير والحيوان نار شمس حارقة ولسع صحراء قارص وأذى الاقتناص.
خداع بصري وسراب مضلل واحساس بالضآلة، يصيب المرء لدى اجتيازه وادي رم لأول مرة.
جبال تناطح السماء.. صحراء ممعنة في الاتساع.. وكثبان يشتعل فيها الوردي..
حالة من الخشوع لهيبة السكون وجلال المشهد…
(وحسمى أرض ببلاد الشام يعرفها من رآها من حيث يراها لأنها لا مثيل لها في الدنيا، ومن جبال حسمى جبل يعرف باسم "إرم "
…وفي أخبار المتنبي وحكاية مسيره من مصر إلى العراق قال: حسمى أرض طيبة .. تنبت جميع النبات، مملوءة جبالا في كبد السماء.)
في النهار.. سماء حين تصفو زرقتها يتسلل ضياءها للتجاويف الجبلية… وتتدلى في الليل عناقيد ضوء… وتتسابق شهب، كل يبحث عن نجمته..وتبدو القمم الجبلية.. كغيوم داكنة في سماء الوادي.
نسر يطارد سرب حمام بري.. تنفلت منه لشقوق الجبال..فتهرول سحلية.. وينتصب النسر على حافة جرف يستجمع ثقته ليواصل التحليق مجددا.
في البدء كان الماء.. وكانت الارض تجد حلولا لبذور النباتات وتكتفي بما تمنحه السماء، تروي به شجيرات الغضا والرتم والتين البري والحبق..
بعض النباتات اختار لنفسه عنوان غير ثابت.. لذا عليها أن تزهر بسرعة قبل أن تحمل الريح بذورها مع الكثبان إلى عنوان آخر….
قطرات من سلسبيل تتسلل من بين تلافيف الجبال.. ما دفع العرب الأنباط لابتناء السدود لحفظ مياه القطارات، مثل سد درج وسد البرة، فيما بعد حذا الرومان حذوهم في بناء سد الرومية وغيره من السدود، حفظت قطرات المياه للسنين العجاف..
ولا يخلو معبد نبطي من حوض اغتسال دلالة على أهمية الاغتسال والطهارة عند العرب الأنباط..
أهمها معبد اللات، وكان قد شيد في عهد الملك "رب إيل الثاني" عام 90-70 ق.م عند نبع الشلالة..
تنتشر أشجار الرتم في الوديان المنخفضة، قد تمكث بذور شجرة الرتم في الأرض ما يزيد عن ثلاثين عام إذ لم يتوفر الماء الكافي لانباتها. أما أشجار التين البري فتلتصق بالسفوح، تصنع للهواة من متسلقي الجبال ظلا يستريحون عنده.
تتباين درجات الحرارة حتى في المسافات القصيرة فتنخفض درجات الحرارة في القمم الشاهقة التي تعلو إلى 1700 م 12 درجة مئوية عنها في المناطق المنخفضة والمفتوحة بالإضافة إلى أن التعرجات العديدة والمعقدة توفر منظومة ذات خصوصية من الظلال والضوء.
تنوع المناخ ما بين الجبل والوادي أدى إلى تنوع النبات، فنبت عرعر ينتمي لمناخ البحر الأبيض المتوسط على بعض سفوح الجبال، فيما انبتت البعض شجر الطلح الاستوائي وغطت نباتات الاقليم السوداني معظم المناطق.
واحتمت نبتات العيصلان وشجيرات الغضا والرمث بالكثبان الرملية لتحتفظ برطوبة تؤمن لها البقاء.
*****************
لم تغره مدن عصرية.. إنما أغرته امتيازات رم وعاش فرادة المكان كما عاش أجداده من قبل..
وما زال ساكن رم يتصرف بعفوية ويعتاش مما تؤمنه له الأرض من نبات وطير وماشية.. يشرب من لبن الماعز والناقة ويصنع اللبن والزبد، يأكل الخبز المعد على الحطب.
يميز البدوي العشبة برائحة تنبعث منها حتى وإن احترقت.. وابتكر طبابة خاصة من الأعشاب والمعادن والأحجار الكريمة وأحيانا النار.
النار التي بقيت متقدة تحت دلال القهوة حتى هذه اللحظة..ولم يزل القضاء العشائري سيد الأحكام.
وللبداوة منظومتها الاجتماعية المستنبطة من معطيات الحياة الفريدة للعيش .. فالبدوي بطبعه يعي ضرورة أن لا يهدر الانسان الماء والكلأ.. ويحرص على ماشيته مثلما يحرص على أفراد عائلته.. ويرفض تلبية دعوة وليمة إن أعدت من لحم أنثى ولود.
يعتبر بيت الشعر المصنوع من وبر الإبل أو شعر الماعز السكن الملائم في صحراء رم.. حيث يتيح التحكم في تبديل أو إغلاق الفتحات بما يتناسب مع حركة الشمس والريح غير المستقرة في غالب الأحيان.
وحين اكتشف ابن المنطقة فرادة المكان الذي يسكنه.. برع في الترويج له.. فهو يعرف كل حبة رمل في الجبل والوادي كما يعرف خطوط راحة يده.. ومهر في تسلق الجبال بحثا عن عشبة أو دابة شاردة.. كما تعرف على كل ما خطته الحضارات القديمة من كتابات ثمودية وعربية نبطية وزخارف تحكي للقادمين تاريخ القبائل التي استوطنت أو عبرت الوادي.
ومن المعروف أن قبيلة عنزة القادمة من بلاد اليمن، استوطنت الأرض التي يطلق عليها "حسمى" والواقعة حاليا شمال المملكة العربية السعودية وجنوب المملكة الأردنية الهاشمية.. إنها بوابة التجارة بين بلاد الشام والجزيرة العربية وبوابة الحجيج فيما بعد..
شهدت أرض حسمى حضارة دولة الأنباط وقبل ذلك الثموديون ومن ثم الأغريق والرومان.. وشق الخط الحديدي الحجازي رمالها في القرن الماضي.. وصفها لورنس أجمل وصف في كتابه المسمى باسم جبل في رم "أعمدة الحكم السبعة" كما أطلق البدو على عين " أم عينية" اسم لورنس حيث كان يغتسل.
**********
هنا قد يظن القادم إلى وادي رم أن ما يراه من أعلام شاهقات سرابا… واللون في الوادي متغير، فالطبيعة سيدة الموقف…
في الليل تشع المدينة الخرافية بما يمنحها القمر والنجوم من خيوط فضية ورمادية مائلة للزرقة وتبدو الجبال مثل غيوم وصلت بين الأرض والسماء… ويمكن لمن يحب أن يستضيء بالنار أن يجد مما هو ملقى في الطريق من أغصان شجر الغضا، كانت الريح قد ذرته، نارا تدفيء وتطهو وتضيء وتطيل سهره أيضا…
عند كل شروق.. تلتمع قمم الجبال مشعة بضوء الشمس… وقليلا قليلا تضاء الممرات والدهاليز بألوان خلابة تعكس اللون الوردي تارة واللون البنفسجي تارة أخرى…. وتشق لها طريقا مضيئا على صفحات الرمل.. فتشع من الوادي الألوان.. تتمازج مثل شال نسج بخيوط من حرير.. وكلما اشتعلت الشمس التهبت الألوان.. وبدت الكثبان مثل جسد من رخام وردي.
وللجبال الوردية كثبان وردية وتنث الجبال البيضاء رمالا تشع بياضا كلما توهجت الشمس…
وتتدرج ألوان الشفق من أزرق رمادي يقترب من الفضي في بعض ساعات النهار، ومن وردي لحمرة حارة في لحظات الغروب.
أما إذا تصادف قدوم الزائر في الليل… ولم يكن القمر بدرا…
فستبدو مدينة "رم" كمدينة أطفأت أنوارها…..
تشع المدينة الخرافية نجوما لن يشهد مثلها في أي بقعة من العالم.
وحين يطل القمر على رم يحمل الوادي اسم وادي القمر بجدارة… وتبدو الجبال مثل غيوم تصل بين الأرض والسماء…
يتيح صفاء السماء في الليل ودوران القمر بغيابه وإطلالته على الوادي للمهتمين بالفلك والمغرمين بدراسة حركة النجوم والكواكب، الجو الملائم للبحث عن المزيد من الصفاء والسكينة والسكون، لن تتهيأ إلا هنا.
إنها مساحة للروح والتأمل يتميز بها وادي رم قد يدفع المرء في الغالب، إلى أن يعيد حساباته وأولوياته وربما يجد حلولا لمشكلاته..
وكلما أوغل في الوادي واستشعر الإنسان الهواء المصفى، كلما اقتربت النفس من الروح.. واستدرج إلى حالة من التأمل تصغر أمامها الأشياء…
***********
الرمل صحيفة البدوي الصباحية… فيها يقرأ نقوش خطتها أقدام العابرين من خف جمل إلى قوائم طيور وسحالي.. مما أكسبه مهارة اقتفاء الأثر.. ومكنته السماء الصافية من اقتفاء حركة النجوم والرياح.. للاستدلال على الطرق ومهاب الريح… لغايات التجارة.
حين يهب إعصار خماسيني تبدو الريح مثل مارد خفي يقتحم الصحراء كموج هائج يحمل الرمال من بقعة لأخرى… تتلاحق أمواج الرمل واحدة تلو الأخرى وتتصاعد مثل أعمدة من دخان وتحفر الريح في الجبال… فلطالما كانت الريح واحد من أهم عوامل التغيير، سواء ما كان عاصفا ومزمجرا أو ما كان منها نسيما عليلا.. فبها تتغير صفحة الجبل ليبدو بعضها مستديرا حنونا بانحناءاته والبعض الآخر قاسيا صلدا ببروزاته، فيما تتشكل زخارف ونقوش ومنمنمات على جبال كانت الرياح بها رفيقة…
تتزود الصحراء برمال حتتها وسفتها الرياح من الجبال، فتتشكل الكثبان حسبما تلقى المكان، بعضها مخروطي كهرم يغري بالتزلج، والبعض الآخر مستدير كجرن ماء… إنها الريح تجتاح الأماكن المفتوحة بكثافة وتتسلل إذا لم يكن لها منافذ… إلا أنها لابد لها أن تغير من طبيعة الأشياء.
وتحمل الريح معها بذور النباتات.. من الصحراء إلى الجبال ومن الجبال إلى الصحراء، فتعلق شجرة بسفح جبل وتزهر الكثبان في الربيع…
وتجد الروح المغامرة في رم الجبل والصحراء، الأفق الذي يتسع للوثب والقفز والتسلق مثلما يتسع للسير والتأمل في النبات والحيوان، والإصغاء لصوت السكون والصدى.
وسينصت الزائر لجبل أم عشرين ما يروى عن فتية عشرون نسج تحديهم حكاية كانت وراء إطلاق الاسم على الجبل..
وستملأه الدهشة من بروج مشيدة كبرج بردة الكبير وأم فروث الصغير… حيث يصعد "صبّاح" وصحبه من المغامرين إلى عنان السماء..
تهب الرياح.. تعصف بالشجر وتنكث الأرض.. يصفر سيق ويتردد في جنبات الوادي صدى نداءات الرعاة وحداء إبل وثغاء ماعز… وتحمل الرياح رائحة خبز طازج وحطب عطري مشتعل..
تطير بذور التين البري والرتم والحرجل من سفح لوادي لتغيب بين ثنيات التراب تنتظر تسلل الماء..
غالبا ما يغادر الزائر "لرم" بمزاج مختلف عما كان عليه قبل اجتيازه الوادي.. وربما تمنحه هذ التجربة الفريدة قدرا من الشجاعة لتعديل أو تغيير أولوياته.. فالتأمل سيستدرج الزائر الى حالة تمكنه من الانصات لصوت السكون والاستغراق في الروحانيات… إنها مساحة للروح والخشوع لجلال وسحر المشهد الذي جسدته عناصر الطبيعة الأربعة في هذه المدينة الخرافية الغامضة والمتبدلة…
ويبقى الغموض الذي يلف المكان مبعث دهشة الانسان كلما قدم إلى وادي رم !!!!!
ربيعة الناصر
22 أيار 2004
نشرت في مجلة أفكار الصادرة عن وزارة الثقافة الأردنية
العدد 218
أسفار
أشارت بيدها بعد أن فتحت باب الشقة ضاحكة: منـزلك لأسبوعين فقط! من مدٍخل الشٍقةٍ.. تمكنت من التعرف على البيت كله!!! على اليسار غرفة النوم.. ومن اليمين تبين لها المطبخ.. موقد غاز بضعة أكواب.. ملاعق على الجدار..
أوجعتها ذراعاها ! هنا صالة الجلوس، هذا كل البيت!
تذكرت حديث المغتربين حول الطقس، استشعرت الدبق لا شك أن الحمام مرفق بغرفة النوم .
راودتها أُمنية ماكرة! ، تمّنت لو لم يكن هناك من ينتظر مجيئها! البيت..؟ لم تحلم بأكثر من هذه المساحة، على أن تكون لها وحدها، تغلقها على نفسها متى تريد وتشرعها متى شاءت ايضا . اتسعت الردهة.. مشجب تراكمت عليه معاطف شتوية يتضح أنها لسيدة شابة.. تعربش عليها معطف صغير المقاس! عاودها الألم في الذراعين.. وضعت أمتعتها على الأرض لتمعن في التعرف على مضيفيها . استرخت ذراعاها وابتسمت ، تلهفها للانفراد والاختلاء بروحها جعلها تسهوعن التخفف من حقائبها.
- أتركك الآن لترتبي ملابسك وتغتسلي سأعود إليك صباحا لتناول القهوة. سمعت صوت صديقتها، أعقبه صوت صفق الباب . اجتازت الصالة… على الجدار المواجه لباب المطبخ ، مكتبة برفوف خشبية وقوائم معدنية، مكتظة بالكتب، إنها روايات من الصنف المحبب لدى الصبايا اليافعات.. باللغة الإنجليزية، امام الكتب المصطفة ، توزعت مقتنيات عديدة، تشي بالأماكن التي زارتها المضيفة، تلك من الصين وهذه من الهند وغيرها ربما من كينيا ! مقعدان طويلان مجللان بمفارش محاكة يدويا، يبدو أنها جلبتها من إحدى دول أوروبا الشرقية ! تلفاز وفيديو وعدة القنوات الفضائية ، أشرطة تسجيل إلى جوار المسجل، أشرطة فيديو، إسطوانات ممغنطة.. نبتة لبلاب اشتبكت بحافة الستارة ستسقيها في الصباح/ لقد نال منها العطش/يبدو ذلك من جفاف تربتها!
امتدت يدها لفتح الستائر، أزالت مشبك الشعر النسائي عنها . قبل أن تطل من النافذة، التقت عيناها بوجه امرأة بملامح افريقية ، وكأنها تقف منذ عصور في انتظار من يخلع المشبك . فأعادت المشبك إلى وضعه الأول!
كم تشتاق إلى خلوة تكون فيها مع نفسها ، تتوق لعزلة تحتاج فيها أن تتحاور مع حالها؟
إمتلأ المكان بعبق قهوة ابتاعتها مساء أمس. تحمل قهوتها أّنى ارتحلت ! أدارت التلفاز وبدأت البحث في القنوات الفضائية أبقت المؤشر على محطة جديدة قيد الافتتاح تبث أغاني عربية قديمة لعبد الحليم حافظ و ليلى مراد!!!
شموع بأشكال وألوان مختلفة تناثرت على الزوايا وأسطح الأشياء، تذكرت حقائبها، ما زالت مركونة إلى جوار الباب الخارجي للشقة. حقيبتان فقط، واحدة للملابس والثانية أودعت بها أوراقاً وأقلاماً، وكتاباً تتحدث مقالاته عن عُمان ،المكان والناس والزمان، و بعض الخرائط للخليج والجزيرة العربية. ست شمعات اشترتها من محل الأفغاني في جبل اللويبدة، لم تكن تعرف لمن ستهديها، فتحت حقيبة الملابس؛ تناولت شمعة ووَضعتها على رف صفت عليه مجموعة تذكارات للمضيفة التي لم تعرفها، تلك السيدة النمساوية التي أفسحت لها مكانا في بيتها و خزانة ملابسها وستغادر بيتها دون أن تعرف وجهها أو وجه طفلها الصغير(سامي) المشرقي العربي الجذور والمقيم مع والده في شقة أخرى من البناية طيلة رحلة أمه!
على شاطئ البحر المكسور ! تم كسر أمواجه، ليتسنى إضافة مساحة من الأرض لإقامة أسواق تجارية ومطاعم ومقاه. تناولتا إفطاراً لا يختلف مذاق أصنافه عن الإفطار في(ست الشام) في دمشق أو(الترويقة) في عمّان، تصلهما أصوات الدردشات بلغات ولهجات و لكنات متعددة!
عائلة من بلاد الشام وأخرى من مصر.. شابان من الخليج العربي.. أطرف ما في المشهد، أن المستخدمات الأجنبيات يرطن بلهجة العائلة التي يعملن لديها، فيليبينية توبخ الأطفال باللهجة المصرية، وسيرلانكية تدلل وتغنج الصغير بلهجة لبنانية! كل يحكي لغة ولي نعمته!!!
أثناء مرورهما بمحاذاة البازار المقام على شاطئ بحر(أبوظبي) وقريبا من (المارينا مول) حيث كانت وابنتها (الوافدة) الجديدة على الخليج تغادران المقهى .
- ما رأيك أن تلقي نظرة على السوق هنا؟ سألتها وهي تتابع نظراتها الشاردة صوب المغادرين بمشترياته من (المول) الجديد.
توقفت ابنتها عند محل لبيع (الإكسسوارات العصرية).. بدأ الشاب اللبناني يعرض مقتنياته بكل لطف، في الوقت الذي لمحت شابا يرتدي لباسا عرفت منها ملامح بلاد من جنوب جزيرة العرب! اتجهت إليه: اليمن؟ هذه مشغولات يمانيه أليس كذلك؟ عقود وسبحات من العقيق والفضة ومختلف أنواع الأحجار الكريمة، ياقوت وجاد وفيروز سرحت ، لم تعد تلبس العقود منذ مدة .. كلما فكرت بلبس واحد تصدمها صورتها في المرآة تثير دهشتها النساء حين تتجاوز الواحدة منهن الشباب وتستمر في لبس العقود والأقراط،،، انتقت واحدا من العقود سآخذه لابنتي حتى وإن لن تلبسه!.. يكفي أنه مشغول بأيد يمانية، قد يأتي يوم تزور بلادا كنا نلثغ بها أطفالا بلاد اليمن السعيد ؛ ونحن نطوف العالم على خرائط الأطلس!
بعد أن وصلتها تأشيرة الزيارة لدولة الإمارات، اتصلت بالسفارة العمانية وطلبت القسم المسؤول عن منح التأشيرات: أنا مسافرة الى دولة الإمارات. لست ممن يرون في التسوق متعة أرغب في زيارة مسقط ، منذ ما يزيد عن الثلاثين عاما وأنا أتمنى زيارة بلاد اليمن وحين زار ابني عُمان في عمل تطلب منه الإقامة مدة شهر هناك، جاءني مأخوذا مما شاهده من حضور للطبيعة في كل من مسقط وصلالة والجبل الأخضر، إلى أن قال تمنيت لو رافقتني، تذكرتك كثيرا هناك .
لم تمنح تأشيرة ولكنهم أخبروها أن بإمكانها الحصول عليها من مكاتب السفارة في دولة الإمارات .
غادرت مبنى السفارة العمانية في (أبوظبي) المسيجة بغراس الريحان! انطلقت ممتلئة بالأمنيات الدافئة بقضاء رحلة طيبة من القائمين على وسم تأشيرة الزيارة.
من العين إلى البريمي انتظرت طويلا قبل أن يحضر راكب وجهته مسقط، كان عليها أن تأتي مبكرة. الشمس تتوارى خلف الأفق الممتد والقلق يبدو على وجه مضيفيها، ابتسمت مطمئنة إياهم : ليس هناك ما يقلقني.. إلا أن يحاسبني السائق على أجرة السيارة بالكامل، وهذا ما لا أتوقعه ! لو كنت هناك في بلدي لا يمكن أن أجازف بهكذا رحلة، أنا مطمئنة..! وأخيرا حضر شاب وجهته مسقط!
كانت معالم قلعة البريمي أول ملمح شاهدته حين اجتازت الفضاء العماني.. وقفت القلعة شامخة تحمل سمات الأرض من حولها!
تهيأ لها وكأن الأبراج تعتمر عمامة أو. . . هكذا بدت لها . الأرض تمتد ومن البعيد ارتفعت جبال تحرس حضارة الخليج. ما بين التوق واحتباس الدهشة وبين حالة غامضة من الحنين لأماكن كانت تثير وجدا وحنينا لا تدري مبعثهما ربما هو حنين للجذور..
هناك في عمق الجنوب من جزيرة العرب، هو الجنوب. حيث الفراهيدي و المسعودي ، والبحارة الاوائل بحر العرب و خليج عمان، صيادو اللؤلؤ وباعة العطر والبخور وإرث سيف بن ذي يزن وبلقيس.
٭ تسنى لها زيارة واحدة من بلدات الداخل أو الباطنة ، كما يطلق عليها البعض في دبي وعلى (هامش) مهرجان التسوق ، إلتقت (أيوب) النحات والفنان العماني الذي سبق أن التقته في ملتقى النحاتين العرب في مهرجان جرش عام١٩٩٩ .
في شارع الضيافة مرت الفرق الاستعراضية للبلدان المشاركة ، أضاءت الشارع فجأة فتيات يزهين بملابس ملونة اخّضر منها المكان! تبعهن مجموعة من الشباب بثياب ناصعة البياض وعمامات أنيقة تميز بها أبناء عمان!
- هذه الألوان من الملابس وغيرها قل أن تجدها في المدن . ألا ترى معي أنها أجمل وأرق من العباءة السوداء وغطاء الرأس الأسود؟ أذهلتني الألوان الاخضر والبنفسجي والأصفر والبرتقالي.. تميس به قدود النساء في بلدات الداخل وقراها ، فيما تحددت المرأة المدينية باللون الأسود.. أليس التمايز والتعدد في الألوان أكثر إشاعة للفرح والبهجة من وحدة اللون في ملابس المرأة ؟
وما الذي يمنع أن يكون للسدر والاثل أو السرح وألوان الشفق وانعكاسه على سطوح الأشياء..وقعه على قامات النساء، ألا ترى معي أن المرأة العمانية قد تكون ابتكرت زيها لتتخفف من وقع حدة الجبال وقسوتها!
كم يؤلم أن النساء في معظم المدن والقرى في أنحاء الوطن العربي.. خلعت عنها الزي الشعبي المنسجم مع الطبيعة ، والتحفت بالسواد! ألا يدلل ذلك على أن طبيعة الثقافة الشعبية أكثر انسجاما مع معطيات البيئة؟
من المسؤول عن إفساد الذوق لدى مجتمعاتنا ؟ أهو التحضر الزائف الذي أورثنا إياه عصر الحرملك والسلاملك؟
ابتسم ايوب البلوشي وقال في اعتداد محبب:- كيف لو عرفت أن في عمان ما يزيد على خمسين زيا شعبيا ؟
من رقة البحر وجموحه و من شموخ جبل مسندم وقسوته..وما بين وعورة بلدات ومدن الباطنة ورضاب عذب في صلالة ترنو عمان اليوم إلى بحار و شواطىء كانت يوما سيدتها . حتى وإن أغلقت / البيبان/ دونها لحقبة من الزمن !
عُمان بلد يختص بمذاق و نكهة ولون تميزه عن باقي مدن الخليج. عمارة مطرزة بنقوش امتزجت فيها خطوط من سواحل أفريقيا وآسيا، مع ما أبدعته مخيلة فنان كان البحر معلمه الأول.
(السواقة فن و ذوق و أخلاق) شعار مكتوب على شواخص موزعة في أنحاء العاصمة والمدن في بلدها لم تلمح شاخصة واحدة لهذا الشعار في مسقط! إنما لمسته سلوكا حقيقيا هنا في عمان وعلى امتداد الطرق الداخلية والخارجية!
في الطريق إلى مسقط سألت: كم بقي لنصل برج الصحوة؟
بضع دقائق! أجاب السائق.
فأين هو البحر إذن؟ أليست مسقط على البحر؟ تساءلت متلفتة.
- مسقط ، البحر بروحها ! أجابها الشاعر، عفوا بل السائق !!!!!
فردت خارطة الوطن، استحضرت تضاريس عمان مدينة مسقط تحتضن البحر!
قدمت للموظف في مطار (أبو ظبي) جواز السفر والتذكرة بعد أن ألقت بالحقائب على القبان. لديك ما يقارب ثمانية كيلوات زيادة عن الوزن المسموح به يا سيدتي! التفتت إلى أمتعتها، هذه حقيبة الملابس كما أتت بها من مطارعمان، فقط شال! حاكته نساء من صلالة وتلقته هدية من صديق مقيم هناك! والثانية فيها رزمة أوراق وكتابين و أقلام، رافقتها من بيتها في عمان ، إلا إذا كانت اللحظات/حين كانت تغافل الوقت والأصدقاء/ لترصدها في مفكرتها… قد أضافت بعض الوزن .
بخفة التقطت الحقيبة القماشية، بالكاد تزن مئة غرام فارغة، احتضنت الحقيبة.
هز الموظف رأسه موافقا ، وهكذا كان لزاما عليها أن تحمل مقتنياتها و حصيلة تسوقها بيدها من مكان إلى آخر!
تتخيل الأسرة تلتف حولها منتظرة هدايا الخليج !!! حق صغير من عطرعمان وآخر يدعى صلالة.. حفنة ياسمين اختزلت حدائق مسقط ابتاعتها من محال سوق مطرح القديم… مبخرتان فخاريتان بلون تراب صحار وبركاء..وحقان من بخور عماني…
سيفوح في البيت عبق الصندل والسنديان.. وستودع سلة الصياد المشغولة بسعف النخل، أوراق وصور وكتيبات لملمتها من أمكنة مختلفة.
عند نهاية شارع الشاطئ في القرم… أوقفا السيارة… سارا باتجاه البحر، توقفت/مقهى سهل حوران/نحمل أسماءنا أنى توجهنا !
توقعت أن أسمع ( بعدك ع بالي يا سهل حوران شرشف قصب و مطرز بنيسان) ابتسم صاحب المقهى مرحبا ، فيما هو يشير للنادل لإفساح مكان للزبائن الجدد: أنا من الجزيرة شمال سوريا ، صاحب المقهى الأول كان من حوران!
قبيل مغادرتها مدينة مسقط ، راق لها أن تطل على شارع الوادي الكبير ، توقفت عند دوار السفينة ، تلك التي أراد بها شبيبة عمانيون أن يثبتوا لأنفسهم أولا ومن ثم للعالم، عظمة البحارة الاوائل وريادتهم ! ..
وأثناء توجهها إلى محطة (روي): ماذا لو احتسينا القهوة معا؟ غصت بالكلمات فأومأت موافقة.
(كنت سعيدا بمرافقتك، خاصة حين أجدني ممسكا بيدك أثناء عبورنا الشارع، حيث أراك دوما تندفعين دون اكتراث للسيارات التي قد تداهمك، أتمنى لو أكون قريبا منك وانت تعبرين الشارع) ارتعش فنجان القهوة وتدفق فيض من الألم والحنين أهو التوق للاستئناس والرفقة ننشدهما حين يقبل علينا صقيع الشيخوخة.
في كل مرة كان يدور الحديث حول كيفية ضياع الأطفال عن أمهاتهم، كانت أمها تروي كيف ضيعتها مرة في أسواق دمشق القديمة والثانية في بلدة (المفرق) في الأردن، كانت تتملص دائماً ممن يقبض على يدها.
على الطريق العام مقهى في (سناو) سأل النادل :- أحمر أم أبيض؟ ابتسمت : أحمر .
الشاي ا لأبيض هو ما مزج بالحليب .
اتخذت المقعد الأمامي.. بدأت مشاهد (روي) تتسرب من أمامها أخذت السيارة المسرب اليمين وارتفعت شاخصة كتب عليها (صحار).
لم تزر صحار، ولا صلالة ،لكنها أخذت على نفسها وعدا أن يكون ذلك في القريب، وربما تتابع المسير إلى بلاد اليمن أيضا .
٭ بقلبها أطلت على الحارات القديمة في جبل القلعة (ربة عمون) ، المغيب تاريخها إلا فيما ورد عنها.. في (العهد القديم)! تهبط درج الكلحة لسوق البشارات، منتصف آذار تزدهي تلال مدينة عمّان بالنوار ، من شقوق الحجارة وبين ثنايا الأدراج، هنالك عشبة او نبتة مزهرة اكتشفت فضاء جديدا بعد أن قبعت زمنا تنتظرتسلل مياه الأمطار اليها ، فيما الأشجار منشغلة بغزل ثياب جديدة .
ثلاثة آلاف من الكيلومترات تفصل مدينتها عن مدينة مطرح ، ففيم فاض بها الوجد حين دلفت سوق مطرح القديم.. تفتنها الأسواق القديمة..
اجتازت الشارع متجهة إلى الكورنيش…
ارتضت تلبية دعوة ابنتها التي رغبت في تجربة العمل في الخليج.. بدأت تلح عليها في الحضور.كانت في حاجة للتحرر من حالة تلبستها.. وجدت نفسها مستغرقة في قراءة (تيسير سبول).
لم تكن قراءة لتزجية الفراغ، إنما محاولة لقراءته ، قراءة مختلفة، ضمن مشروع سينمائي برؤية جديدة .
سافرت مع (تيسير سبول) ليلا ونهارا.. روايته.. أشعاره.. مقالاته.. رسائله الخاصة لأصدقائه.. جمعتها من الأدراج المقفلة.. نفضت عنها الغبار.. كانت تقرأ الواحدة منها بتأن.. مبتسمة حينا ومقطبة في بعض الأحيان وآسفة في معظم الأحيان لأنه لم يتح لها التعرف عليه في حياته!
بحثت بين الحروف والكلمات، وبين ما قيل ومالم يقال عن مبعث أحزانه.. وعن ذلك الجرح الغائر المفتوح.. هل لمح وجوم القابلة فصرخ: أن لا جدوى ؟؟؟
التقت زوجته وزملاءه وأصدقاءه رفاق المدرسة والجامعة والمدينة.
هل لي أن أقول أني أحببت زوجك بعد قراءتي الجديدة لحياته وكتاباته! قالت للدكتورة مي اليتيم زوجة (تيسير سبول) .
كل شيء يبتدئ من الطفولة
مشاركة في ملتقى أدب الطفل
8 إلى 11 أيلول - 2007
عمان-الأردن
بداية لن أقلل من أهمية الثورة المعلوماتية و من تعدد مصادر المعرفة وتنوعها..
ولن أتغزل هنا بالقلم والورق والكتاب ..
كما يحلو لنا أن نفعل في بعض الجلسات الحميمية إذ نتذكر..نحن أبناء وبنات الجيل القديم
وأعترف أنني لم أعد أستخدم القلم والورق إلا ما ندر..
وأعترف أيضا أنني بت أستخدم محرك البحث جوجل حين تستعصي علي معلومة أو كلمة..
كما أعترف بالفضل لمن علمتني هذه التقنية الحديثة..
طالبة عرفتها طفلة تلثغ وكانت ممن يطلن المكوث بين رفوف المكتبة..
جمعت بيننا صداقة الكتاب..
القراءة لا تقتصر على قراءة الكتب..
قراءة الحياة من حولنا شكل من أشكال القراءة..
إنما هل نتوقع أن تتوقف تجربة القراءة عند هذا الحد؟
أعتقد أن من يمتلك مهارات التأمل بقراءة ما يحيط به من معارف .. حتما لابد أن تقوده هذه المهارات إلى اكتشاف عوالم جديدة ومنها عالم القراءة..
دفعني تعلم القراءة للمزيد من القراءة..
كنت أقرأ كل ما يقع تحت يدي من كتب مدرسية لمن يكبرني بالبيت ..
فيما بعد صرت أختلس روايات وكتب يضعها أبي إلى جوار سريره..
لا أعرف كيف علمت زميلاتي بالمدرسة عن قدرتي في كتابة موضوع الإنشاء في دقائق..
وصرت أقايض ما أكتبه من مواضيع التعبير بالروايات ودواوين الشعر..
قبل ذلك قضيت على كل الكتب المرفوعة والمرصوصة في سحاحير في سدة البيت..
ولأن أمي كانت تجهل القراءة والكتابة رغم أنها من علمني فك الحرف وتلك قصة أخرى.. ربما أرويها في الملتقى القادم..
فقد عمدت إلى تفريغ مكتبة أبي لاستخدامها كخزانة لأدوات السفرة من صحون وفناجين وأكواب تستخدم في المناسبات الخاصة جدا..
إلى أن طلبت مني ذات يوم الصعود للسدة للبحث عما لست أذكره الآن..
ما أذكره اكتشافي لأناس ما زالوا يرافقونني حتى اليوم..
من جورجي زيدان إلى إميل زولا ,, ومن بيرل بك إلى شارلوت وأميلي برونتي..وعرفت في السدة أرض النفاق لتوفيق الحكيم وحواري القاهرة والاسكندرية ..في زيارتي لمصر وكلما وقفت على كورنيش النيل أسمع صوت ارتطام جسد سنية بماء النهر….
وبحكم اهتمامي بالكتب وجدتني أشتري الكتب لأطفالي ولم يبلغ أكبرهم بعد الثلاث سنوات..
لم أكن قد اطلعت بعد على دراسات أو أبحاث تربوية عن اكتساب عادة القراءة من خلال الاستمتاع بالقصة إلا بقدر ما تطلبه عملي كمعلمة..
وكانت صديقتي تسخر مني حين تسمعني أقرأ لصغاري باللغة الفصحى..
وبعد اقل من شهر من دخول ابني الروضة كان قد أتقن رسم الحرف وصوته ..
وكذلك ابنتي الوسطى ثم الصغرى..
لم أشق في تعليم أولادي القراءة والكتابة
لا بسبب ذكاء غير اعتيادي ولا لأني كنت أدرسهم .. آمنت بالفطرة أن التعلم لا يتأتى للطفل بحجم الساعات التي يقضيها بالدرس في البيت والروضة أو المدرسة..
ولم أتوقف عن قراءة الحكايات حتى اليوم..
العمل في مكتبة كان بمثابة حلم
وحين قرأت لبورخيس قوله: وتخيلت النعيم مكتبة عامرة بالكتب
آمنت أكثر بحلمي
ربطتني وطالبات شغوفات بالقراءة صداقات امتدت حتى اليوم..
كانت مكتبة مدرسة أم عمارة في إربد ملتقى للمعلمات المحبات للقراءة والبحث..
نقرأ على بعضنا البعض مقالة متميزة في الصحيفة أو نناقش آخر ما كتب درويش أو أدونيس..
تلك الأجواء جعلت من المكتبة مكان حميم ليس للطالبات فحسب بل وللمعلمات أيضا..
في مكتبة روضة المدرسة الأهلية للبنات…
كنت أجلس وراء المكتب أتابع الأطفال يتحركون بحرية بين الرفوف ..أو يستلقون على الأرض حين يكون الكتاب كبيرا أو ثقيلا..
قد يأتي من يسألني عن كتاب عن الطيارات أو عن قصة سندباد.. عندها أرافقه في البحث..
استمتعت في قراءة كتب الأطفال ورسوماتها..
كثيرا ما كنت أسمع طفل يروي لزميله حكاية الكتاب حسب قراءته لرسومات الكتاب.
وفي خلال سنة يعتاد طفل الروضة كل صباح أن يدخل المبنى مسرعا وجهته المكتبة ويقف بالدور ليعيد كتابا استعاره ويستعير كتابا جديدا..
والبعض منهم يتأبط الكتاب ويبدأ بالتجول لاختيار كتاب جديد….
بعد 7 سنوات من مغادرتي مكتبة روضة المدرسة الأهلية.. هاهو حفيدي قيس يأتيني كل يوم بكتاب جديد.. شعوري بالامتلاء يتزايد وأنا أرى أن العادة التي زرعتها قد أصبحت نظاما وسلوكا يوميا.. يمارسهما الطفل والمعلمة معا..
في كتاب بعنوان كل شيء يبتدئ من الطفولة مثل شعبي يقول:
العمل الذي تزرعه .. تحصده عادة
والعادة التي تزرعها .. تحصدها طبعا
والطبع الذي تزرعه .. تحصده مصيرا
..
8 إلى 11 أيلول - 2007
عمان-الأردن
بداية لن أقلل من أهمية الثورة المعلوماتية و من تعدد مصادر المعرفة وتنوعها..
ولن أتغزل هنا بالقلم والورق والكتاب ..
كما يحلو لنا أن نفعل في بعض الجلسات الحميمية إذ نتذكر..نحن أبناء وبنات الجيل القديم
وأعترف أنني لم أعد أستخدم القلم والورق إلا ما ندر..
وأعترف أيضا أنني بت أستخدم محرك البحث جوجل حين تستعصي علي معلومة أو كلمة..
كما أعترف بالفضل لمن علمتني هذه التقنية الحديثة..
طالبة عرفتها طفلة تلثغ وكانت ممن يطلن المكوث بين رفوف المكتبة..
جمعت بيننا صداقة الكتاب..
القراءة لا تقتصر على قراءة الكتب..
قراءة الحياة من حولنا شكل من أشكال القراءة..
إنما هل نتوقع أن تتوقف تجربة القراءة عند هذا الحد؟
أعتقد أن من يمتلك مهارات التأمل بقراءة ما يحيط به من معارف .. حتما لابد أن تقوده هذه المهارات إلى اكتشاف عوالم جديدة ومنها عالم القراءة..
دفعني تعلم القراءة للمزيد من القراءة..
كنت أقرأ كل ما يقع تحت يدي من كتب مدرسية لمن يكبرني بالبيت ..
فيما بعد صرت أختلس روايات وكتب يضعها أبي إلى جوار سريره..
لا أعرف كيف علمت زميلاتي بالمدرسة عن قدرتي في كتابة موضوع الإنشاء في دقائق..
وصرت أقايض ما أكتبه من مواضيع التعبير بالروايات ودواوين الشعر..
قبل ذلك قضيت على كل الكتب المرفوعة والمرصوصة في سحاحير في سدة البيت..
ولأن أمي كانت تجهل القراءة والكتابة رغم أنها من علمني فك الحرف وتلك قصة أخرى.. ربما أرويها في الملتقى القادم..
فقد عمدت إلى تفريغ مكتبة أبي لاستخدامها كخزانة لأدوات السفرة من صحون وفناجين وأكواب تستخدم في المناسبات الخاصة جدا..
إلى أن طلبت مني ذات يوم الصعود للسدة للبحث عما لست أذكره الآن..
ما أذكره اكتشافي لأناس ما زالوا يرافقونني حتى اليوم..
من جورجي زيدان إلى إميل زولا ,, ومن بيرل بك إلى شارلوت وأميلي برونتي..وعرفت في السدة أرض النفاق لتوفيق الحكيم وحواري القاهرة والاسكندرية ..في زيارتي لمصر وكلما وقفت على كورنيش النيل أسمع صوت ارتطام جسد سنية بماء النهر….
وبحكم اهتمامي بالكتب وجدتني أشتري الكتب لأطفالي ولم يبلغ أكبرهم بعد الثلاث سنوات..
لم أكن قد اطلعت بعد على دراسات أو أبحاث تربوية عن اكتساب عادة القراءة من خلال الاستمتاع بالقصة إلا بقدر ما تطلبه عملي كمعلمة..
وكانت صديقتي تسخر مني حين تسمعني أقرأ لصغاري باللغة الفصحى..
وبعد اقل من شهر من دخول ابني الروضة كان قد أتقن رسم الحرف وصوته ..
وكذلك ابنتي الوسطى ثم الصغرى..
لم أشق في تعليم أولادي القراءة والكتابة
لا بسبب ذكاء غير اعتيادي ولا لأني كنت أدرسهم .. آمنت بالفطرة أن التعلم لا يتأتى للطفل بحجم الساعات التي يقضيها بالدرس في البيت والروضة أو المدرسة..
ولم أتوقف عن قراءة الحكايات حتى اليوم..
العمل في مكتبة كان بمثابة حلم
وحين قرأت لبورخيس قوله: وتخيلت النعيم مكتبة عامرة بالكتب
آمنت أكثر بحلمي
ربطتني وطالبات شغوفات بالقراءة صداقات امتدت حتى اليوم..
كانت مكتبة مدرسة أم عمارة في إربد ملتقى للمعلمات المحبات للقراءة والبحث..
نقرأ على بعضنا البعض مقالة متميزة في الصحيفة أو نناقش آخر ما كتب درويش أو أدونيس..
تلك الأجواء جعلت من المكتبة مكان حميم ليس للطالبات فحسب بل وللمعلمات أيضا..
في مكتبة روضة المدرسة الأهلية للبنات…
كنت أجلس وراء المكتب أتابع الأطفال يتحركون بحرية بين الرفوف ..أو يستلقون على الأرض حين يكون الكتاب كبيرا أو ثقيلا..
قد يأتي من يسألني عن كتاب عن الطيارات أو عن قصة سندباد.. عندها أرافقه في البحث..
استمتعت في قراءة كتب الأطفال ورسوماتها..
كثيرا ما كنت أسمع طفل يروي لزميله حكاية الكتاب حسب قراءته لرسومات الكتاب.
وفي خلال سنة يعتاد طفل الروضة كل صباح أن يدخل المبنى مسرعا وجهته المكتبة ويقف بالدور ليعيد كتابا استعاره ويستعير كتابا جديدا..
والبعض منهم يتأبط الكتاب ويبدأ بالتجول لاختيار كتاب جديد….
بعد 7 سنوات من مغادرتي مكتبة روضة المدرسة الأهلية.. هاهو حفيدي قيس يأتيني كل يوم بكتاب جديد.. شعوري بالامتلاء يتزايد وأنا أرى أن العادة التي زرعتها قد أصبحت نظاما وسلوكا يوميا.. يمارسهما الطفل والمعلمة معا..
في كتاب بعنوان كل شيء يبتدئ من الطفولة مثل شعبي يقول:
العمل الذي تزرعه .. تحصده عادة
والعادة التي تزرعها .. تحصدها طبعا
والطبع الذي تزرعه .. تحصده مصيرا
..
لغة الموسيقة 1
استهوته الألوان والخطوط.. يرسم كل ما يخطر بباله..طائرات وسفن.. جرب التشكيل في الخط العربي.. أثارته الرسومات في أفلام الرسوم المتحركة.. استمتع في لعبة الأرقام.. عشق الحيوانات والحشرات.. يتسلل إلى الثلاجة ليطعم الكلاب والقطط الضالة حتى الحمير
في المدرسة.. أصبح رسام المناسبات الوطنية والمعارض .. يرسم الخرائط والبورتريه على الجدران
في يوم عاد من المدرسة يطل من عينيه غل مدفون..
ما بك…هل تشاجرت مع أحد؟
ضربني الأستاذ رضوان ست عصي لأنني كنت أرسم في حصة القراءة..!
لا أستطيع الجلوس في المقعد أستمع لدرس القراءة يقرأه كل أولاد الصف.. إذا انتبهت للقراءة سأجد نفسي أرد الطالب إن أخطأ وإن لم أنتبه سوف ينتابني التثاؤب والنعاس.. فما كان مني إلا أن أخرجت دفتر الرسم والألوان.. لم أرسم فوق الطاولة كي لا أشغل الأولاد بل وضعت الدفتر على ساقي.. الولد المجاور شكاني للأستاذ فضربني….
في صباح اليوم التالي وفي طريقي إلى العمل وقد كانت مدرسة طارق مجاورة للمدرسة التي أدرس بها.. التقيت الأستاذ الذي ضرب ابني
صباح الخير.. سأشكوك طارق..
قاطعته بقولي: أنا من يشكوك
فقد ذكرني ضربك ابني بحكاية أم أديسون مع أساتذته…
كانا كتوأم.. وما زالا حتى اليوم.. شقيقته التي تصغره بعام وخمس شهور استهواها الجمباز.. إلى أن اكتشفت الموسيقى.. في العاشرة بدأت بتلقي دروس العزف على آلة متواضعة عن الفلوت.. ما أن تعود من الدرس حتى تبدأ بالتدرب على العزف..تشرح له ما تعلمته في ذلك اليوم.. وتسمح له باستخدام آلتها..انتبهت الأم إلى اهتمامهما المشترك.. وصادف أن والدهما كان على سفر إلى اليابان.. وحين سأل عما يريدان من هدايا.. أشارت أن أورغ متطور سيكون خير هدية..
في أقل من أسبوع كان ملما بكل تقنيات الأورغ.. ومنذ ذلك الوقت لم تتوقف أصابعه عن العزف..
كان ذلك عام 1980 وقد بلغ من العمر إحدى عشر سنة
في المرحلة الإعدادية تفوقه في الرياضيات أذهل أستاذه فمنحه علامة مئة بالمئة على 6 شعب للصف الثاني الإعدادي.. وحين التقاني ذات يوم سألني هل يتابع طارق أستاذ خصوصي في الرياضيات..أجبته بأني أرفض مبدأ الدروس الخصوصية..
أما المرحلة الثانوية فقد بات الانتظام في المدرسة مشكلة المشاكل في حياتنا.. ففي أقل من ثلاث سنوات تنقل ما بين ست مدارس.. لم يحتمله أي معلم بما فيهم مدراء المدارس والمرشد الاجتماعي
كثيرا ما ردد على مسامعنا القول ومشيرا إلى رأسه أن هناك أشياء تلح عليه بالخروج ويخشى أن يكبر قبل ولادتها.. كنت أتمعن بكل كلمة يقولها وأفكر من أين يأتي بهذه الأقوال..
ذات يوم .. كنا نتابع معا فيلم سينمائي .. سمعته يتنهد ويقول : لو أجد فيلم من غير موسيقى.. كثيرا ما أشعر بموسيقى مصاحبة للعمل السينمائي غير ما هو موضوع.. يتبع
شارة البداية لمسلسل الملك فاروق
تأليف وتوزيع
طارق الناصر
http://www.youtube.com/watch?v=i50kzrYBUqc
في المدرسة.. أصبح رسام المناسبات الوطنية والمعارض .. يرسم الخرائط والبورتريه على الجدران
في يوم عاد من المدرسة يطل من عينيه غل مدفون..
ما بك…هل تشاجرت مع أحد؟
ضربني الأستاذ رضوان ست عصي لأنني كنت أرسم في حصة القراءة..!
لا أستطيع الجلوس في المقعد أستمع لدرس القراءة يقرأه كل أولاد الصف.. إذا انتبهت للقراءة سأجد نفسي أرد الطالب إن أخطأ وإن لم أنتبه سوف ينتابني التثاؤب والنعاس.. فما كان مني إلا أن أخرجت دفتر الرسم والألوان.. لم أرسم فوق الطاولة كي لا أشغل الأولاد بل وضعت الدفتر على ساقي.. الولد المجاور شكاني للأستاذ فضربني….
في صباح اليوم التالي وفي طريقي إلى العمل وقد كانت مدرسة طارق مجاورة للمدرسة التي أدرس بها.. التقيت الأستاذ الذي ضرب ابني
صباح الخير.. سأشكوك طارق..
قاطعته بقولي: أنا من يشكوك
فقد ذكرني ضربك ابني بحكاية أم أديسون مع أساتذته…
كانا كتوأم.. وما زالا حتى اليوم.. شقيقته التي تصغره بعام وخمس شهور استهواها الجمباز.. إلى أن اكتشفت الموسيقى.. في العاشرة بدأت بتلقي دروس العزف على آلة متواضعة عن الفلوت.. ما أن تعود من الدرس حتى تبدأ بالتدرب على العزف..تشرح له ما تعلمته في ذلك اليوم.. وتسمح له باستخدام آلتها..انتبهت الأم إلى اهتمامهما المشترك.. وصادف أن والدهما كان على سفر إلى اليابان.. وحين سأل عما يريدان من هدايا.. أشارت أن أورغ متطور سيكون خير هدية..
في أقل من أسبوع كان ملما بكل تقنيات الأورغ.. ومنذ ذلك الوقت لم تتوقف أصابعه عن العزف..
كان ذلك عام 1980 وقد بلغ من العمر إحدى عشر سنة
في المرحلة الإعدادية تفوقه في الرياضيات أذهل أستاذه فمنحه علامة مئة بالمئة على 6 شعب للصف الثاني الإعدادي.. وحين التقاني ذات يوم سألني هل يتابع طارق أستاذ خصوصي في الرياضيات..أجبته بأني أرفض مبدأ الدروس الخصوصية..
أما المرحلة الثانوية فقد بات الانتظام في المدرسة مشكلة المشاكل في حياتنا.. ففي أقل من ثلاث سنوات تنقل ما بين ست مدارس.. لم يحتمله أي معلم بما فيهم مدراء المدارس والمرشد الاجتماعي
كثيرا ما ردد على مسامعنا القول ومشيرا إلى رأسه أن هناك أشياء تلح عليه بالخروج ويخشى أن يكبر قبل ولادتها.. كنت أتمعن بكل كلمة يقولها وأفكر من أين يأتي بهذه الأقوال..
ذات يوم .. كنا نتابع معا فيلم سينمائي .. سمعته يتنهد ويقول : لو أجد فيلم من غير موسيقى.. كثيرا ما أشعر بموسيقى مصاحبة للعمل السينمائي غير ما هو موضوع.. يتبع
شارة البداية لمسلسل الملك فاروق
تأليف وتوزيع
طارق الناصر
http://www.youtube.com/watch?v=i50kzrYBUqc
لغة الموسيقى 2
حضرت صغرى الخالات.. الطالبة في كلية الفنون الجميلة في جامعة دمشق لقضاء بضعة أيام ولإعداد بحث عن الرسم عند الأطفال..
ولمن لا يعلم فإن بيتنا في إربد كان يبعد عن بيت جدتي في دمشق مسير أقل من ساعتين في السيارة..
تحلق الصغار من أطفال أخواتها وبعض الأصدقاء.. وعلى أنغام زياد الرحباني وصوت فيروز مع هدير البوسطة.. انتشرت الأوراق والألوان على السجادة في بيت الجدة..
حلقت أحلام الصغار وحطت على الصفحات البيضاء.. حملت الخالة الرسومات.. وشرعت في كتابة البحث المطلوب..
في الزيارة التالية همست لي بملاحظة أستاذها في الكلية حول رسومات طارق: ديري بالك على هذا الطفل.. ليس شرطا أن يصبح رساما إنما لديه شيء مهم..
بقيت ملاحظة أستاذ كلية الفنون الجميلة ماثلة في ذهني كلما تظلم ابني من عسف معلم أو مدير مدرسة..
كأم لثلاثة أطفال.. لم تتلق في حياتها أي تدريب لتكون أم إلا بما اكتسبته وشاهدته سواء ما كان من تجربة أمي في تربيتنا أو تجارب الأمهات الأخريات.. قرأت كل ما يقع تحت يدي من كتب حول أصول التربية..
أتمعن في ردود أفعال الأطفال والأمهات الصغيرات.. علني أجد جوابا لما أواجهه من مآزق مع أطفالي..
قرأت عن آينشتاين وداروين وأديسون
حزنت لطرد والد داروين لابنه.. وفشل آينشاتين في مادة الحساب
واتخذت من أم أديسون نموذج للأم المؤمنة بما يمتلك أولادها حين ردت على أساتذة ابنها بقولها: إن عقل هذا الصغير أكبر بكثير من عقول كل أساتذته
عرفت يومها أن ما يتلقاه ابني وأبنائنا في المدارس من دروس لا يرقى إلى تطلعات الطالب الموهوب
كان شراء الكتب واقتناءها إحدى عادات البيت..
الولد المتفوق في الدراسة والذي كانت شهاداته المدرسية تحمل دائما أعلى الدرجات وتوقيع أساتذته لفطنته وتميزه..أصبح يهرب من المدرسة..
لم يخبرني بسره ولم يقل لي أحد.. مجرد أن تزوغ العينان أدرك أن هناك شيء ما..
في صباح من صباحات الجمعة.. وفيروز تشجو بأغنيات ذهب أيلول وما فيها من شجن وحزن..
طارق لم يزل يتقلب في فراشه بين النوم والصحو.. دخلت غرفته لأوقظه.. وإذ بي أسمع صوته يطالبني برجاء أن أوقف غناء فيروز.. لا أستطيع النهوض من الفراش أرجوك أمي..
سوف أدرك فيما بعد أنه كان يتألم بشدة إن أخفى عني ما يغضبني.. ويبدو أن حزن الموسيقى في أغنيات : أنا عندي حنين .. و.. ذهب أيلول .. وياريت.. أثرن ألمه..
بالأمس سألني طارق: ماذا تعني كلمة طرب؟
والطرب في اللغة هو ذاك الشعور الجارف سواء كان فرحا أو حزنا وأصله من الأطراب وهي شرايين القلب
.. وليس أدل على ذلك من قول قيس بن الملوح:
وداع دعا إذ نحن بالخيف من منى.. فهيج أطراب الفؤاد وما يدري.. دعا باسم ليلى غيرها فكأنما أطار ب ليلى طائرا كان في صدري
جاءت الثانوية العامة بكل ما تحمله أعباء نفسية وذهنية للبيت والأب والأم والأقارب والجيران والزميلات والزملاء.. الكل يغدو معنيا بدراسة ابن التوجيهية.. كيف يدرس.. وما هي علاماته.. وماذا يريد أن يصبح..
كنت أسمع أن جدي لأبي كان ممن يرتجلون القصيد.. وينظم الشعر.. وللأسف بدا اهتمامي بالبحث عن جذور الشعر والموسيقى في العائلة بعد رحيل والدي الذي كان يردد دائما قصيدة كان قد نظمها جدي حسب الحروف الهجائية بمعنى أن البيت الأول في القصيدة تبتدئ كل كلمة من كلماته بحرف الألف والثاني بالباء وهكذا إلى أن ينتهي من جميع الحروف
وسوف يسر لي عمي أحمد فيما بعد.. بأن جدي كان عازف مجيد على الربابة.. إلا أن النظرة الاجتماعية لمثل هذا الميل وهو ابن العائلة المحافظة دفعه إلى تحطيم ربابته على جدار البيت..
..
كان في الصف العاشر حين حضر لدعوتنا على حفل زفافه طبيب من الأقارب.. وطلب من طارق أن يحضر معه الأورغ لأنه لا يرغب بفرقة موسيقية تردد أغان الشارع..
قبل موعد الفرح أجلس جدته "أمي" إلى جواره وطلب منها أن تدندن بالأغاني التي تحبها..
هي تدندن وهو يكتب الألحان بالأورغ..
من موسيقى الهوانم لدقة ستي والقدود الحلبية وعدد مما تحفظه في ذاكرتها من ألحان وأغان تركية
.. ليلة رحيلها سيكتشف أنها مازالت محتفظة بذلك "الكاسيت" الذي سجله كدرس أول للموسيقى الفلكلورية
..
أثناء العزف في حفل فرح الطبيب
اقترب منه والد العريس هامسا وقد كان يعمل آنذاك في سلك القضاء وبالتحديد عضو محكمة التمييز: أتمنى أن لا تتخذ من العزف مهنتك لتكن هواية فحسب..
www.rummusic.com
ولمن لا يعلم فإن بيتنا في إربد كان يبعد عن بيت جدتي في دمشق مسير أقل من ساعتين في السيارة..
تحلق الصغار من أطفال أخواتها وبعض الأصدقاء.. وعلى أنغام زياد الرحباني وصوت فيروز مع هدير البوسطة.. انتشرت الأوراق والألوان على السجادة في بيت الجدة..
حلقت أحلام الصغار وحطت على الصفحات البيضاء.. حملت الخالة الرسومات.. وشرعت في كتابة البحث المطلوب..
في الزيارة التالية همست لي بملاحظة أستاذها في الكلية حول رسومات طارق: ديري بالك على هذا الطفل.. ليس شرطا أن يصبح رساما إنما لديه شيء مهم..
بقيت ملاحظة أستاذ كلية الفنون الجميلة ماثلة في ذهني كلما تظلم ابني من عسف معلم أو مدير مدرسة..
كأم لثلاثة أطفال.. لم تتلق في حياتها أي تدريب لتكون أم إلا بما اكتسبته وشاهدته سواء ما كان من تجربة أمي في تربيتنا أو تجارب الأمهات الأخريات.. قرأت كل ما يقع تحت يدي من كتب حول أصول التربية..
أتمعن في ردود أفعال الأطفال والأمهات الصغيرات.. علني أجد جوابا لما أواجهه من مآزق مع أطفالي..
قرأت عن آينشتاين وداروين وأديسون
حزنت لطرد والد داروين لابنه.. وفشل آينشاتين في مادة الحساب
واتخذت من أم أديسون نموذج للأم المؤمنة بما يمتلك أولادها حين ردت على أساتذة ابنها بقولها: إن عقل هذا الصغير أكبر بكثير من عقول كل أساتذته
عرفت يومها أن ما يتلقاه ابني وأبنائنا في المدارس من دروس لا يرقى إلى تطلعات الطالب الموهوب
كان شراء الكتب واقتناءها إحدى عادات البيت..
الولد المتفوق في الدراسة والذي كانت شهاداته المدرسية تحمل دائما أعلى الدرجات وتوقيع أساتذته لفطنته وتميزه..أصبح يهرب من المدرسة..
لم يخبرني بسره ولم يقل لي أحد.. مجرد أن تزوغ العينان أدرك أن هناك شيء ما..
في صباح من صباحات الجمعة.. وفيروز تشجو بأغنيات ذهب أيلول وما فيها من شجن وحزن..
طارق لم يزل يتقلب في فراشه بين النوم والصحو.. دخلت غرفته لأوقظه.. وإذ بي أسمع صوته يطالبني برجاء أن أوقف غناء فيروز.. لا أستطيع النهوض من الفراش أرجوك أمي..
سوف أدرك فيما بعد أنه كان يتألم بشدة إن أخفى عني ما يغضبني.. ويبدو أن حزن الموسيقى في أغنيات : أنا عندي حنين .. و.. ذهب أيلول .. وياريت.. أثرن ألمه..
بالأمس سألني طارق: ماذا تعني كلمة طرب؟
والطرب في اللغة هو ذاك الشعور الجارف سواء كان فرحا أو حزنا وأصله من الأطراب وهي شرايين القلب
.. وليس أدل على ذلك من قول قيس بن الملوح:
وداع دعا إذ نحن بالخيف من منى.. فهيج أطراب الفؤاد وما يدري.. دعا باسم ليلى غيرها فكأنما أطار ب ليلى طائرا كان في صدري
جاءت الثانوية العامة بكل ما تحمله أعباء نفسية وذهنية للبيت والأب والأم والأقارب والجيران والزميلات والزملاء.. الكل يغدو معنيا بدراسة ابن التوجيهية.. كيف يدرس.. وما هي علاماته.. وماذا يريد أن يصبح..
كنت أسمع أن جدي لأبي كان ممن يرتجلون القصيد.. وينظم الشعر.. وللأسف بدا اهتمامي بالبحث عن جذور الشعر والموسيقى في العائلة بعد رحيل والدي الذي كان يردد دائما قصيدة كان قد نظمها جدي حسب الحروف الهجائية بمعنى أن البيت الأول في القصيدة تبتدئ كل كلمة من كلماته بحرف الألف والثاني بالباء وهكذا إلى أن ينتهي من جميع الحروف
وسوف يسر لي عمي أحمد فيما بعد.. بأن جدي كان عازف مجيد على الربابة.. إلا أن النظرة الاجتماعية لمثل هذا الميل وهو ابن العائلة المحافظة دفعه إلى تحطيم ربابته على جدار البيت..
..
كان في الصف العاشر حين حضر لدعوتنا على حفل زفافه طبيب من الأقارب.. وطلب من طارق أن يحضر معه الأورغ لأنه لا يرغب بفرقة موسيقية تردد أغان الشارع..
قبل موعد الفرح أجلس جدته "أمي" إلى جواره وطلب منها أن تدندن بالأغاني التي تحبها..
هي تدندن وهو يكتب الألحان بالأورغ..
من موسيقى الهوانم لدقة ستي والقدود الحلبية وعدد مما تحفظه في ذاكرتها من ألحان وأغان تركية
.. ليلة رحيلها سيكتشف أنها مازالت محتفظة بذلك "الكاسيت" الذي سجله كدرس أول للموسيقى الفلكلورية
..
أثناء العزف في حفل فرح الطبيب
اقترب منه والد العريس هامسا وقد كان يعمل آنذاك في سلك القضاء وبالتحديد عضو محكمة التمييز: أتمنى أن لا تتخذ من العزف مهنتك لتكن هواية فحسب..
www.rummusic.com
لغة الموسيقى3
عندما تغني اللاذقية
أوصى الروائي العربي وابن الساحل السوري "حنّا مينا" الموسيقي الشاب بزيارة جبرائيل سعادة في مدينة اللاذقية… هناك سيجد ما يبحث عنه من الموروث الموسيقي لمدن الساحل السوري.. ولأن العمل التلفزيوني تدور أحداثه ما بين مدينتي طرطوس واللاذقية والريف المحيط بهما.. فقد كان عليه وهو الذي منذ اكتشف التعبير لا يكف عن السؤال..أن يسأل كيف كانت عليه الألحان في المرحلة التي يتناولها العمل..سيلتقي جبرائيل سعادة.. وسيبعث الحماس في شيخوخة سعادة رحمه الله وسيفتح له مؤرخ مدينة اللاذقية مكتبته الموسيقية على مصراعيها..وقع اختيار طارق الناصر على أغنية " يا محلى الفسحة على راس البر" وعمل جبرائيل سعادة يومها على تسجيل الأغنية على شريط / لم يكن النسخ على أل سي دي متوفرا كما هو عليه الآن / كان ذلك في شتاء ال93 إذ لم تخنني الذاكرة..أسمعني الغناء المسجل منذ عشرات السنوات.. وسيتضح لمن يستمع للتسجيل أن الغناء مؤدى بعفوية من مجموعة ربما كانوا من البحارة ويبدو أن التسجيل كان لغايات التوثيق ليس إلا… التوزيع الجديد بالآلات الشرقية والغربية وبروح شابة بعث الحياة في اللحن الجميل.. التفت الموسيقيون والمطربات للتيمة الجميلة للأغنية القديمة.. بعد انتشار اللحن من خلال العمل التلفزيوني نهاية رجل شجاع..صيف 2007 التقيت صديقتي مناة الخير الشاعرة القادمة من مدينة اللاذقية للمشاركة في مهرجان الشعر في مدينة الرمثا..لا أذكر من منا بدأت بالدندنة بالأغنية.. عندها تذكرت لقاء ولدي بجبرائيل سعادة…كانت مناة الخير تتحدث باستمتاع عن ابن مدينتها جبرائيل سعادة، الوريث الوحيد لعائلة غنية وعريقة توفرت له بيئة ثقافية غنية من كتب وموسيقى.. ربما لم يتوقع أحد لابن سعادة وهو في مطلع شبابه يعيش الحياة المترفة أن يقوده عشقه لمدينته إلى ما آلت عليه حياته.. باحثا ومؤرخا يضع كل ثروة العائلة في خدمة التوثيق التاريخي والثقافي لمدينة اللاذقية-أوغاريت!لحظة انهالت عليه الكتب بسبب ارتباكه / حسب ما روى فيما بعد /في مكتبة الاستشراق الفرنسية بمدينة باريس باحثا عن مؤلف حول الموسيقا العربية كتبه مستشرق فرنسي..كتاب " راس شمرا" من ضمن الكتب التي انهالت عليه..راس شمرا ؟ إنها منطقة تبعد عن اللاذقية مسافة عشر دقائق، ويتذكر أنه كان يرافق العائلة والأقارب في رحلات الصيد إلى مكان يدعى راس شمرا. كان ذلك عام 1946 انهيار رف الكتب في مكتبة الاستشراق على سعادة كان نقطة التحول في حياة الشاب الذي لم يتجاوز عمره آنذاك 24 عام..وبالرغم من حصوله على إجازة الحقوق من المعهد الفرنسي للحقوق في بيروت عام 1944رجع جبرائيل سعادة إلى مدينته وبدأ في البحث عن تاريخ مدينته أوغاريت.. راس شمراكان أول مؤلفاته "أوغاريت" دراسة باللغة الفرنسية عام 1954 .. وترجمه للعربية في العام 1955نشأته في بيت عني بالموسيقى والأدب دفعه لجمع التراث الموسيقي في موسوعة "عندما تغني اللاذقية"لم يتزوج وآلت كل ممتلكات العائلة التي وظفها في حياته إلى مدينته.. فكان بيت العائلة أول دائرة آثار وأول متحف وأول مكتبة وطنية وملتقى الباحثين وطلاب المعرفة..وكان الدليل السياحي لعلماء الآثار والمهتمين بالتاريخ.توفي عام 1997 بعد أن أغنى المكتبة العربية بمؤلفات عن تاريخ اللاذقية.. وقد أوصى بمكتبته التي ضمت ستة عشر ألف مجلد إلى جامعة تشرين..في كل مرة أسمع فيها غناء " يا محلى الفسحة على راس البر.. والقمر نور ياعيني على موج البحر"أردد بيني وبين نفسي ليرحمك الله يا جبرائيل سعادة،
http://www.rummusic.com/the_music.htmيتبع..>
لغة الموسيقى4 .. والخوخ تحت المشمشة
مساء فيروزي… والخوخ تحت المشمشه
ونفرت الدموع رغما عني، خليط عجيب من المشاعر انتابتني وأنا أصغي
وأرنو إلى فيروز سامقة على مسرح الأرينا في جامعة عمان الأهلية، لست أدري لماذا؟ ولن
يفهم الشاب الجالس إلى جواري لماذا؟ بدأت أعبث في حقيبتي بحثا عن منديل.
رأيت في تلك الوقفة كل من رافقني رحلة الحياة، أبي وأمي، عمتي
شقيقاتي أسرتي الصغيرة.
طفنا وتجولنا في بيوت وعرائش ماتزال تسكننا.
كان هناك أيضا فيلمون وهبه وزكي ناصيف وجوزيف حرب ونصري شمس الدين وعاصي
والياس وزياد الرحباني.
لحظة بدأت فيروز تهدهد الوالي في مسرحية "صح النوم"تهليلة
" يللا تنام ريما يللا ييجيها النوم"
أغنية غالبا ما كنت أغنيها لطفلتي، وما زال أخواها يذكران كيف كنت أستبدل اسم ريما باسم رند، وأغير لون الشعر ليصبح "شعرا أسود ومنقى".
أغنية غالبا ما كنت أغنيها لطفلتي، وما زال أخواها يذكران كيف كنت أستبدل اسم ريما باسم رند، وأغير لون الشعر ليصبح "شعرا أسود ومنقى".
في الأمس كان لقائي الثاني بفيروز، وكان لقائي الأول على ما أعتقد في
بداية الألفين، في المرتين يأتيني طارق ببطاقة لحفل فيروز رغم فداحة ثمن البطاقة، ويبرر إصراره على شراء الدعوة برأي لم يتح لي رفض الدعوة الباهظة الثمن: فيروز بتسوى،
وأنت أيضا، منذ صغرنا عودتنا سماع الموسيقى من الرحبانية وفيروز وأم كلثوم وعبد الوهاب، ولولا
ذلك لما كنّا ما نحن / أنا وأخواتي/عليه الآن.
أذكر في مطلع التسعينيات أو قبل، جاءت ابنتي رسل / طالبة الفنون الجميلة
– تخصص موسيقى / ومعها شريط جديد، وضعت الشريط في جهاز التسجيل : أرجوك أمي اسمعيه
للآخر وسأحب أن أسمع رأيك.
كانت تلك أغنيات فيروز بتوقيع موسيقي من ابنها زياد، كيفك إنت وزعلي طول
أنا وياك وبتمرق علي أمرق ما بتمرق ما بتمرق مش فارقة معاي موش فارقة معاي.
أمسكت نفسي حتى انتهت الأغنيات، لا أنكر أني شعرت باختلاف النكهة.
فوراً وبعد توقف الصوت، جاءت ابنتي وسألتني: هه ما قولك فيما سمعت؟؟؟
أعتقد سأحبها لأنها فيروز.
الآن أستمتع بسماعها ليس لأنها فيروز، لأنها بحق جميلة، التغيير في البداية
يربك، أحببناها مع زياد كما أحببنا فيما بعد، كان غير شكل الزيتون.. كان أكبر هالبلكون.. وضاق
خلقي يا صبي.
بالأمس شمخت فيروز كما دائما هي، لم تثن ال70 قرنفل / اسم فيروز في المسرحية
/ من الوقوف على خشبة المسرح ما يزيد عن الساعة ونصف، ولن أجد في استخدام "البلاي
باك" للأغاني أي استخفاف بالجمهور كما سيرى البعض، فالفكرة تستحق إعادة العرض
الذي أنتج قبل 30 عام.
استمتعت ب"يا قمر يا قمر ضوي ضوي عالشجر" كما لو أنها تغني
لي وحدي، رغم الآلاف من محبي صوت فيروز وموسيقى الرحبانية والكلمات المحكية التي تشبه
كلامنا اليومي.
ساهمت فيروز والرحبانبة في الارتقاء / ليس فحسب / بالذائقة الموسيقية،
بل وفي تعويد أجيال على ارتشاف الغناء مع قهوة الصباح وتقبل الحياة ببساطة وحب ووعي.
ما زلت أذكر كيف توقفت عن الشدو أثناء حرب الميليشيات في لبنان، وبعد
وأد الفتنة في منتصف التسعينيات، وقفت في وسط
بيروت وفي ساحة الشهداء وغنت للبنان.
شموخ فيروز جاء لأنها لم تنتظر أعطيات الولاة. فقط، بالمدن والإنسان والطبيعة
تغنت..
توهج
نظرإلى ساعته وغادر مسرعا مكتب الاستشارات متجها صوب سيارته.
وردة حمراء تعلقت بماسحة الزجاج أبطأت من سرعته..
بأناة فتح باب السيارة وتناول ملفا وعلبة التبغ وسؤال معلق على الوردة .. أغلق الباب وأشعل لفافة تبغ.
أربكته الوردة وإن بدا لنفسه متماسكا.. جاست عيناه المكان.. يرقب كل من يغادر المكتب بحذر..
لا يليق بمن في عمره أن يبحلق في الفتيات الصغيرات.. لكن من تكون صاحبة الوردة الحمراء!
الفتاة التى تجلس خلف زجاج الاستعلامات.. لا لا.. همس لنفسه: لمحت خاتم زواج في إصبع يدها اليسرى.. هل يمكن أن تكون دعابة من صديقه ؟ لا يذكر أنه تبادل الورود مع أحد من قبل.. لا وقت لديه ولا مال.. العمل والأسرة والأولاد.. ولكن من هي ؟؟؟
أحس بوهج حار رغم برودة الجو.. خلع معطفه.. ألقاه في سيارته وعاد يقف أمام الباب الرئيسي للمكتب..
استوقفه عامل القهوة ولما انتبه إلى شروده.. غادر بصمت!
بقي مسمرا أمام المبنى مدة تجاوزت (إذن المغادرة)
رجع إلى حيث سيارته.. مالت الوردة.. أبقاها حيث وضعتها امرأة ما.. وانطلق بسيارته مسرعا.. لا تحتمل ابنته الانتظار طويلا أمام بوابة المدرسة!
انتهى الشاب من حلاقة ذقنه.. من شباك المطبخ يلمحها كل صباح تقطع الشارع وتلقي بمفاتيح السيارة في حقيبتها وتدلف مكتب الاستشارات.. لم يصادف أن رآها بالقرب من سيارتها..
حالما سمع صوت محرك سيارة يدور.. اندفع باتجاه النافذة مسرعا .. استوقفه صوت أمه تسأل: هل تنتظر أحدا ؟
هز رأسه نافيا وعاد الى غرفته.. حين لم يجد السيارة التي وضع الوردة عليها..
يجزم الآن.. أنها تنظر للوردة تسألها عن شكل الشاب، طويل، أسمر، هل يعمل في مكتب الاستشارات، أم يسكن بالجوار !!!
وردة حمراء تعلقت بماسحة الزجاج أبطأت من سرعته..
بأناة فتح باب السيارة وتناول ملفا وعلبة التبغ وسؤال معلق على الوردة .. أغلق الباب وأشعل لفافة تبغ.
أربكته الوردة وإن بدا لنفسه متماسكا.. جاست عيناه المكان.. يرقب كل من يغادر المكتب بحذر..
لا يليق بمن في عمره أن يبحلق في الفتيات الصغيرات.. لكن من تكون صاحبة الوردة الحمراء!
الفتاة التى تجلس خلف زجاج الاستعلامات.. لا لا.. همس لنفسه: لمحت خاتم زواج في إصبع يدها اليسرى.. هل يمكن أن تكون دعابة من صديقه ؟ لا يذكر أنه تبادل الورود مع أحد من قبل.. لا وقت لديه ولا مال.. العمل والأسرة والأولاد.. ولكن من هي ؟؟؟
أحس بوهج حار رغم برودة الجو.. خلع معطفه.. ألقاه في سيارته وعاد يقف أمام الباب الرئيسي للمكتب..
استوقفه عامل القهوة ولما انتبه إلى شروده.. غادر بصمت!
بقي مسمرا أمام المبنى مدة تجاوزت (إذن المغادرة)
رجع إلى حيث سيارته.. مالت الوردة.. أبقاها حيث وضعتها امرأة ما.. وانطلق بسيارته مسرعا.. لا تحتمل ابنته الانتظار طويلا أمام بوابة المدرسة!
انتهى الشاب من حلاقة ذقنه.. من شباك المطبخ يلمحها كل صباح تقطع الشارع وتلقي بمفاتيح السيارة في حقيبتها وتدلف مكتب الاستشارات.. لم يصادف أن رآها بالقرب من سيارتها..
حالما سمع صوت محرك سيارة يدور.. اندفع باتجاه النافذة مسرعا .. استوقفه صوت أمه تسأل: هل تنتظر أحدا ؟
هز رأسه نافيا وعاد الى غرفته.. حين لم يجد السيارة التي وضع الوردة عليها..
يجزم الآن.. أنها تنظر للوردة تسألها عن شكل الشاب، طويل، أسمر، هل يعمل في مكتب الاستشارات، أم يسكن بالجوار !!!
الشيخة
من حكايات جدي
كتبهاربيعة الناصر ، في 5 شباط 2008 الساعة: 11:42 ص
تعثرت الدابة وأسقطت "الطحنة" ..
حدث ذلك في طريق العودة من مطحنة اعتادت النسوة في القرى المجاورة، طحن القمح وجرش الحبوب بها.…………….
قليلا ما كان الأب يلقي على بناته بالتعليمات الواجب الالتزام بها حيال الحياة.. وكثيرا ما كان يروي لهن حكايات عن الجدات والعمات .. كانت لديه قدرة فائقة على تصوير المشاهد التي عاشها أو سمع عنها..تمسك الصغيرات الأنفاس، تتابع باستمتاع السرد الأنيق ويحاذرن مقاطعته.. كي لا تفلت منهن اللحظة .."عمتي أميرة.. شيخة حقيقية… ذات هيبة ووقار وحضور فطن وجميل.."تكتمل الصورة لامرأة ممشوقة في ثوب أسود وحطة رأس مشغولة مع خيوط القصب..تتصدر البيت الكبير.. وتشارك أفراد عائلتها من الرجال في التخطيط للموسم الزراعي القادم بحكمة ودراية..……….
افترشت الأرض، وامتدت يدها إلى حقيبة مصنوعة من بقايا ثوب أسود.. تناولت علبة "التتن" فركت التبغ بأطراف أصابعها، لإعداد لفافة، عسى أن يمر من يعينها على إرجاع كيس الطحين على ظهر الدابة..
أشعلت اللفافة وسحبت نفسا ًعميقا، تبغ بطعم بنزين فتيل الولاعة الحديدية!………..في أول يوم عمل لها في مدرسة القرية.. بعد تقديم أوراق النقل لمديرة المدرسة / لم يكن التدخين محظورا بعد في مدارس وزارة التربية والتعليم / تناولت علبة السجائر وأشعلت لفافة.. ابتسمت إحدى المعلمات القادمة من منطقة أخرى وعلقت بقولها: ها أنت تؤكدين العبارة التي كان يرددها الكبار قديما.. حين تلفت انتباههم سيدة جميلة ذات حضور" مزيونة .. بس لو بيدها سيجارة"…..
بدأت الشمس تميل للمغيب، دون أن يلوح لها أحد يساعدها في رفع "الطحنة"
انتشر الظلام وأضاءت النجوم السهل الممتد، وقد بدأ يغفو بعد نهار شاق.
انتابتها قشعريرة إذ تذكرت حكايا السمّار من أهل قريتها عن ذلك الحيوان النتن.. يقال بأنه يخاف الضوء ويتجنبه، لذلك تراه يترصد فريسته في ظلام الليل، ولا تكاد تخلو سهرات القرويين من حكايات الضبع مع القرويين .
بادرت إلى إعداد عدد من لفافات التبغ.. وسارعت إلى إشعال واحدة وقد لاح من بعيد "زوال" يتحرك صوبها.. أمنعت النظر.. وتيقنت منه.. إنه هو!
بدأ يحوم حولها، في انتظار أن ينطفئ الضوء المنبعث عنها، دأبت على إشعال لفافات التبغ الواحدة من عقب الأخرى!
فيما أخذ ينبش الأرض بأطرافه.. يتمطى.. ويتمدد.. المرة تلو المرة.
:كمن يحفر قبرا.. من منا سيقبع فيه ؟ تساءلت في سرها.. يتوهج التبغ.. هو يقف لها بالمرصاد.. ينبش ويتمطى..ينتظر أن تطفأ نارها!
"لا محالة عن الموت حق.. لكن ليس بمخالب حيوان كريه.. فهذه ميتة لا تليق لشيخة .
عشرات اللفافات احترقت.. والضبع يناور..
تأهبت، راقبته بحذر إلى أن تمدد وتمطّى . جمعت ما كمن من طاقتها، وعاجلته بأن هالت عليه الطحنة .
أغرق كيس الطحين جسد الضبع بالكامل .
فوق كيس الطحين، جلست! وبكل جسارة وهدوء أعدت لفافة تبغ جديدة تساعد في إبقائها يقظة..أدركها الفجر، وصاح ديك معلنا بدء نهار جديد.
استفاقت القرية.. وبدت جموع صغيرة من الناس والدواب تتخذ طريقها في اتجاهات عدة.. اقتربت منها واحدة من الجموع ، ردّت التحية..سألتهم المساعدة في رفع كيس الطحين، تقدم منها شابان ورفعا الطحنة على ظهر الدابة. ارتدّت العيون عن الجثة الملقاة في الحفرة تسأل…
بازدراء أجابت: إنه كلب لا غير !!!
وادي موسى.. المدينة الزاهية
المدينة المنتشرة على سفوح الجبال تغفو، وصوت سكون عميق، يقطعه بين الحين والآخر، وقع حوافر خيول تهبط الشارع.. والشباك لوحة سماوية..- تعجبني السماء في بلادكم. صفاء ونقاء لا مثيل له، يندر أن نراه في المدن والعواصم الأخرى.. فالسماء هنا تبدو قريبة جدا.- ربما لأن معظم المدن عندنا معلّقة في الجبال.. والهواء دوما متجدد..يتردد صدى وقع خطوات الخيل، نداءات لفتيان شبّوا، يتنقلون كل صباح من بين منحدرات المدينة الجبلية الحديثة إلى طرقات المدينة الوردية العتيقة.يعبق الفضاء برائحة قهوة صباحية، شرفة معلقة في السماء لبيت في القرارة تطل على مدينة يافعة زاهية الملامح، طلاء البيوت متباين الألوان، الزهري والأزرق، المشمشي والأخضر، البنفسجي والأصفر، جميع ألوان الدهانات يمكن أن تجدها هنا، في وادي موسى. ويندر أن يشهد المار في شوارع المدينة بيتا لا تسيجه شجيرات الياسمين والجهنمية، والليمون أو الزيتون. معمار بسيط وأنيق، يشي بذوق متأصل الجذور.أشير لسيارة أجرة بالتوقف.. الوجه باسم، ولا يسأل: إلى أين؟ جميع من التقيتهم من سائقي سيارات الأجرة مهذبون، بهندام حسن ونظيف، كما هي سيارة الأجرة.في السوق القريب من البترا أتوقف، ولا أكف عن رد التحية لأصدقائي من أهل السوق.سعد يتابع نظافة مدخل محل يضم مقتنيات من الشرق والغرب، تبدو النظافة جزءا من الموروث الشعبي لأهل الوادي، خصوصا أولئك الذين يعملون في محلات بيع القطع التذكارية.. لا وجود للوجه المتجهم بين من صادفتهم، سواء في المطاعم أو المحلات التجارية.. ربما جاءت الابتسامة من الألوان الزاهية للمدينة الوردية وانعكس أثرها على الجنوبيين في وادي موسى، فازدهت البيوتات الحديثة بألوان مبهجة.ظاهرة ازدحام محلات بيع التذكارات بالبضائع الهندية والتركية والصينية من الظواهر التي تشكل علامة استفهام كبيرة، ليس في وادي موسى فحسب، بل في معظم الأماكن السياحية.- لا أخفي عليك أني أشعر بالخجل حين يسألني السائح عن قطع مصنوعة محليا.. ربما هناك بعض المؤسسات فطنت إلى أهمية إنتاج مشغولات محلية، إلا أنها إضافةً إلى ارتفاع سعرها، لا تكفي حاجة السوق، وتفتقر إلى التنوع. فالسائح يريد قطعة تشبه الناس والمكان، جميلة وخفيفة، من غير أن ترهق مخصصاته للرحلة التي انتظرها طويلا.إجابة سمعتها مرارا، أثناء تجوالي في سوق التذكارات المجاور لبوابة البترا.في مطعم أبو عمار رصّت أكياس من البهارات..- إنها من الأعشاب التي تغطي سفوح التلال والوديان إبان فصل الربيع، تجمعها النسوة ويجففنها، نستخدمها في بعض أصناف الطعام، يشتريها السياح، للاحتفاظ في نكهة البترا كما يقولون… وأحيانا يطلب السائح تذوق الأطعمة الشعبية لأهل وادي موسى، ما دفعني لاعتماد عدد من البيوت ممن اشتهرت النساء فيها بإتقان الطهي.بعد أن انتهيت من تناول كوب قهوة، أعدها عبود لحظة أن لمحني أهبط من سيارة الأجرة، تلفّتُ حولي بحثا عن كيس النفايات. انتبه الهلالي الشاب، إسماعيل: أعطني إياها..أخشى أن تلقيها في الشارع.- بالطبع لن أفعل.. المرة الوحيدة التي ألقيتها، سمعت ما أخجلني من سائح كنت أقلّه في سيارتي.. ومن يومها لا أسمح لأحد بإلقاء النفايات من السيارة.ويعقب بأسلوب يحرص فيه أن يبدو أكثر تهذيبا مما هو عليه أصلا: هذه النفايات المبعثرة على حواف الطريق بين وادي موسى والقرى المحيطة بها، غالبا، يلقي بها مواطنون قادمون من عمّان… نحن نأتي بالسياح إلى هنا، وهذا مصدر رزقنا.. لذا نحرص على نظافة الأمكنة.. مسحة حضارية تميز الوادي وأهله.وادي موسى.. مدينة علية القوم من الأنباط كما هو مثبت في الأبحاث التأريخية.في الطريق إلى قرية البيضا (البتراء الصغيرة)، لا بد من المرور من بلدة أم صيحون .ول أم صيحون وقرية البيضا حكاية متشابهة لا بد من التعريج عليها.. البترا عاصمة الأنباط.. وقبل اكتشاف أهميتها السياحية ومن ثم التاريخية، توارث سكناها عشائر وقبائل كان آخرها البدول . أما عشيرة العمارين التي تسكن قرية البيضا الآن، فقد كانت البترا الصغيرة سكناهم حتى أجل قريب.لم يتحقق لهم السكن البديل، الصحي واللائق.بيوت من الحجر الجيري، تشوي الحرارة اللاهبة أنفاسهم صيفا، ويلسع البرد القارس أجسادهم في فصل الشتاء..لا متسع في أرض أم صيحون.. ما دفع التكاثر لدى سكانها الجدد إلى اجتراح إضافات عشوائية على الوحدات السكنية .شوهت صفو الجبال الأنيقة الفاصلة بينها وبين البيضا.تستوقفني فوضى الشارع، إذ تزاحم الدواب وسيارات الجيب الأطفال، لتفصلني عن الاسترسال في الاستغراق بالتأمل في سحر التكوين.الجبال، تكورت قممها كرؤوس مردة تحجرت.. أحيانا يُهيأ لي أن حكماء جبال الشراة يجتمعون للتشاور في أمر جلل… تشكيلات سوريالية سالت على وجوه الجبال.. أفواه فاغرة وعيون غائرة، مررت بها عشرات المرات، دون أن تدعني أفلت أو أملَّ من التمعن في تكويناتها الفريدة.البيضا، قرية وادعة، هيأت مساحتها المتصلة مع قرية الهيشة وبير الدباغات، للمقتدرين من عشيرة العمارين بالانتشار والامتداد، وبناء بيوت تتمتع بشروط أفضل من الوحدات القديمة الشبيهة بوحدات أم صيحون.في المساء، وفي طريق العودة من قرية البيضا إلى وادي موسى، أكتشف حُسن الخريف، تمتزج هامات الجبال مع جموع الغيوم، لتأثيث لوحة عريضة، في فضاءات ذو الشرى.من بعيد ألمح سيارات فارهة تجتاز الشوارع اللامعة.خيول ودواب تصعد منحنيات التلال في رحلة الإياب للبيت.مدينة شرعت أبوابها في غارب الزمان لرياح تغيير، حملتها قوافل التجارة من شرق غرب.ومن غير أن تؤسس معاهد لتعليم اللغات، أو الرسم بالرمل، يرطن أبناء وادي موسى بأكثر من لغة.. ويرسمون بالرمل الملون المعبأ في زجاجات رسومات متنوعة الأشكال، الجمال والجبال، الطيور والكثبان. ويحلم محمد العمارين في يوم يدير فيه مركزا لتدريب الرسم بالرمل.وادي موسى، مدينة نفض عنها أبناؤها غبار النسيان، واستيقظت شابة نضرة بعد سبات عميق..مدينة كانت تستضيء بزيت زيتونها، قبل نشوء البتراء عاصمة الأنباط..واستمرت، بعد أن دالت دولتها.. ولا يضيرها اليوم أن تعيش في كنف المدينة الوردية…عن صحيفة الرأي الأردنيةhttp://www.alrai.com/pages.php?news_id=246150
شبابيك.. أول شباك
لم يمض على ظهور نتائج الثانوية العامة ثلاثة أشهر حين لقيتني معلمة لم تتجاوز الثامنة عشرة من عمرها، تواجه صفا مدرسيا لطالبات تتراوح أعمارهن ما بين السابعة والثالثة عشرة..
كان ذلك في بدايات خريف 1965، تقدمت بطلب للعمل كمعلمة في المدارس التابعة لرئاسة تعليم البنات.. بعد أسابيع استدعيت للمقابلة.. جلست كتلميذة أمام سيدتين مهيبتين..
سألتني( شكران) المشرفة التربوية والقادمة من سوريا : هل تقرأين؟ أومأت برأسي أن نعم ، أعقبتها( نجاح خلوصي): ماذا قرأت من روايات ..؟
انتهيت للتو من قراءة رواية البؤساء .. ثم حدثتهما عن الروايات التي شغفت بها. ..وقبل أن أختم حديثي .. هبط علي سؤال أخر: وماذا عن المجلات؟ استحضرت ذاكرتي المجلات التي كنا نتابعها آنذاك : آخر ساعة و روز اليوسف وصباح الخير، العربي والوطن العربي.. : أي الأبواب أحببت في مجلة العربي؟
سألت شكران : الاستطلاع المصور ومن أخطاء القضاء.. بعدئذ بدأتا توجهان لي أسئلة في صميم مهنة التعليم: هل ترسمين؟ : كلا.. : افترضي أن موضوع الدرس تطلب منك توضيحا بالرسم ماذا ستفعلين؟ أجبتها فورا: سأرسم وبدأت في رسم بنات وأولاد ..ابتسمت بحنو، كما لو أنها ربتت على كتفي.. وماذا لو أن طالبة أخبرتك أنها لم تفهم ما شرحت.. سأعيد الشرح للصف مع التركيز عليها.. استغرقت المقابلة ما يقارب الساعة ..أو ربما هيأ لي ثراء الحوار ذلك، تخللها أسئلة متنوعة مابين الشخصي والعام لا أذكر أني ارتبكت ، ليس بسب قوة شخصيتي وتماسكي، إنما لأنهما كانتا على مستوى من المهنية واللباقة العالية، لم أرتعد ولم ينتابني أي شعور بالرهبة أو الخوف.. رغم أنهما تتمتعان بقدر وافر من الهيبة والوقار المهني وبحضور إنساني شفاف! فيما بعد .. سأتلقى المزيد من التعزيز والتوجيه من كل من نجاح خلوصي وشكران ، الغريب في الأمر والذي أأسف له حقا أن الذاكرة لا تسعفني الآن في استحضار الاسم العائلي لشكران وحتى اليوم..وبعد ما يزيد عن الأربعين عاما مازلت أدين بالامتنان إلى تلك المقابلة.. عنوكالة عمون الإخبارية http://ammonnews.net/article.aspx?articleNO=29402
كان ذلك في بدايات خريف 1965، تقدمت بطلب للعمل كمعلمة في المدارس التابعة لرئاسة تعليم البنات.. بعد أسابيع استدعيت للمقابلة.. جلست كتلميذة أمام سيدتين مهيبتين..
سألتني( شكران) المشرفة التربوية والقادمة من سوريا : هل تقرأين؟ أومأت برأسي أن نعم ، أعقبتها( نجاح خلوصي): ماذا قرأت من روايات ..؟
انتهيت للتو من قراءة رواية البؤساء .. ثم حدثتهما عن الروايات التي شغفت بها. ..وقبل أن أختم حديثي .. هبط علي سؤال أخر: وماذا عن المجلات؟ استحضرت ذاكرتي المجلات التي كنا نتابعها آنذاك : آخر ساعة و روز اليوسف وصباح الخير، العربي والوطن العربي.. : أي الأبواب أحببت في مجلة العربي؟
سألت شكران : الاستطلاع المصور ومن أخطاء القضاء.. بعدئذ بدأتا توجهان لي أسئلة في صميم مهنة التعليم: هل ترسمين؟ : كلا.. : افترضي أن موضوع الدرس تطلب منك توضيحا بالرسم ماذا ستفعلين؟ أجبتها فورا: سأرسم وبدأت في رسم بنات وأولاد ..ابتسمت بحنو، كما لو أنها ربتت على كتفي.. وماذا لو أن طالبة أخبرتك أنها لم تفهم ما شرحت.. سأعيد الشرح للصف مع التركيز عليها.. استغرقت المقابلة ما يقارب الساعة ..أو ربما هيأ لي ثراء الحوار ذلك، تخللها أسئلة متنوعة مابين الشخصي والعام لا أذكر أني ارتبكت ، ليس بسب قوة شخصيتي وتماسكي، إنما لأنهما كانتا على مستوى من المهنية واللباقة العالية، لم أرتعد ولم ينتابني أي شعور بالرهبة أو الخوف.. رغم أنهما تتمتعان بقدر وافر من الهيبة والوقار المهني وبحضور إنساني شفاف! فيما بعد .. سأتلقى المزيد من التعزيز والتوجيه من كل من نجاح خلوصي وشكران ، الغريب في الأمر والذي أأسف له حقا أن الذاكرة لا تسعفني الآن في استحضار الاسم العائلي لشكران وحتى اليوم..وبعد ما يزيد عن الأربعين عاما مازلت أدين بالامتنان إلى تلك المقابلة.. عنوكالة عمون الإخبارية http://ammonnews.net/article.aspx?articleNO=29402
شبابيك.. درس في الغش
لا يكاد ينتهي فراس من كتابة الدرس المكتوب على اللوح الأسود .. حتى يبدأ في سحب القلم من يد زميله .. شد حزام البنت الجالسة إلى جواره، ركل آخر في المقعد المجاور، لا يتوقف عن مناداتي، يفشي لي عن ولد شاهده بقضم بالسر من (عروسة الزعتر والزبت) أو طالبة تلعب بصنابير المياه في الساحة..فيما بعد سأسمح للصغار بتناول (ساندويشات اللبنة أو الزعتر) في الصف ..وسأطبق بالاتفاق مع مديرة المدرسة نظاما خاصا لصفي، بحيث أواصل إعطاء الثلاث حصص الأولى من غير أن أترك الصف في فترة ال5 دقائق.. لأمنح صفي 10 دقائق إضافية قبل الفرصة، يتناول فيها الصغار الطعام بعيدا عن الكبار الذين يختطفون الساندويشات أثناء جريهم في ساحة المدرسة..أما فراس، فقد وجدت في تكليفه ببعض الأعمال الصغيرة، وسيلة تشغله عن التحرش (البريء) بزميلاته وزملاءه ..أثناء اطلاعي على دفتره وكتابة الملاحظات، أجهد في البحث عن عمل يشغله ويتناسب وطفولته ” ما رأيك لو تجمع الطباشير الملونة وتضعها في علبة منفصلة عن الطباشير البيضاء”..؟أو أطلب منه حمل سلة الأوراق وتفريغها في الحاوية المجاورة لغرفة الصف..
وأحيانا كنت أرسله إلى مكتب المديرة لإحضار المسجل الصغير أو بعض الأوراق..كان فراس طفلا ذكيا سريع البديهة والأداء .. أول من يجيب على الأسئلة وأول من ينهي المطلوب في الكتابة..….مديرة المدرسة، كلما زارت صفي، لا تنفك عن قول: أعرف جيدا أنك لست ممن يتحلى بطول البال أو الهدوء الدائم، ولابد أن أبدي لك دهشتي من تقبلك لهذه (الهيصة) من الاطفال..ودائما أجيب نفس الإجابة: إن طول النفس والهدوء، ضرورة إذا أردنا أن نحبب الصغار بالدراسة، إنها قناعتي بأنني من غير الالتزام بهاتين الصفتين فلا منفعة مني ترجى.. !!!ورغم كل هذا الحرص .. إلا أننا كثيرا ما نقع في أخطاء قد تبدو للآخرين ناتجة عن إهمال أو سوء تقدير…ذات يوم حضرت إلى الصف المعلمة المناوبة تسألني: أين فراس ؟: إنه هناك يجلس في مكانه..: لقد شج رأس ولدا كان يمشي في الشارع ..: كيف.. لم يغادر فراس الصف إلا لتفريغ سلة الأوراق في الحاوبة..وعاد فورا للصف..!!!: نعم هذا صحيح..إلا أن ما حدث أن باب المدرسة كان مفتوحا، ما دفع فضول طفل صغير يسير على الرصيف المحاذي لسور المدرسة، بأن يطل برأسه مستكشفا المكان.فراس الذي كان متجها إلى غرفة الصف، ملوحا بيده السلة البلاستيكية الفارغة، كل ما فعله أن ضرب بالسلة رأس ولد (من الحارة) تعدى (حسب إفادته) على مدرسته، وأكمل سيره إلى غرفة الصف، دون أن يلتفت إلى ما حدث في رأس الصغير.... أتمنى أن يقرأ فراس هذه الحكاية ليعلم أن شقاوته المثيرة للمشاكل ..وشخصيته الفريدة، كانت من الدروس المهمة التي تعلمتها في حياتي المهنية والخاصة..
وأحيانا كنت أرسله إلى مكتب المديرة لإحضار المسجل الصغير أو بعض الأوراق..كان فراس طفلا ذكيا سريع البديهة والأداء .. أول من يجيب على الأسئلة وأول من ينهي المطلوب في الكتابة..….مديرة المدرسة، كلما زارت صفي، لا تنفك عن قول: أعرف جيدا أنك لست ممن يتحلى بطول البال أو الهدوء الدائم، ولابد أن أبدي لك دهشتي من تقبلك لهذه (الهيصة) من الاطفال..ودائما أجيب نفس الإجابة: إن طول النفس والهدوء، ضرورة إذا أردنا أن نحبب الصغار بالدراسة، إنها قناعتي بأنني من غير الالتزام بهاتين الصفتين فلا منفعة مني ترجى.. !!!ورغم كل هذا الحرص .. إلا أننا كثيرا ما نقع في أخطاء قد تبدو للآخرين ناتجة عن إهمال أو سوء تقدير…ذات يوم حضرت إلى الصف المعلمة المناوبة تسألني: أين فراس ؟: إنه هناك يجلس في مكانه..: لقد شج رأس ولدا كان يمشي في الشارع ..: كيف.. لم يغادر فراس الصف إلا لتفريغ سلة الأوراق في الحاوبة..وعاد فورا للصف..!!!: نعم هذا صحيح..إلا أن ما حدث أن باب المدرسة كان مفتوحا، ما دفع فضول طفل صغير يسير على الرصيف المحاذي لسور المدرسة، بأن يطل برأسه مستكشفا المكان.فراس الذي كان متجها إلى غرفة الصف، ملوحا بيده السلة البلاستيكية الفارغة، كل ما فعله أن ضرب بالسلة رأس ولد (من الحارة) تعدى (حسب إفادته) على مدرسته، وأكمل سيره إلى غرفة الصف، دون أن يلتفت إلى ما حدث في رأس الصغير.... أتمنى أن يقرأ فراس هذه الحكاية ليعلم أن شقاوته المثيرة للمشاكل ..وشخصيته الفريدة، كانت من الدروس المهمة التي تعلمتها في حياتي المهنية والخاصة..
شبابيك..فراس
لا يكاد ينتهي فراس من كتابة الدرس المكتوب على اللوح الأسود .. حتى يبدأ في سحب القلم من يد زميله .. شد حزام البنت الجالسة إلى جواره، ركل آخر في المقعد المجاور، لا يتوقف عن مناداتي، يفشي لي عن ولد شاهده بقضم بالسر من (عروسة الزعتر والزبت) أو طالبة تلعب بصنابير المياه في الساحة..فيما بعد سأسمح للصغار بتناول (ساندويشات اللبنة أو الزعتر) في الصف ..وسأطبق بالاتفاق مع مديرة المدرسة نظاما خاصا لصفي، بحيث أواصل إعطاء الثلاث حصص الأولى من غير أن أترك الصف في فترة ال5 دقائق.. لأمنح صفي 10 دقائق إضافية قبل الفرصة، يتناول فيها الصغار الطعام بعيدا عن الكبار الذين يختطفون الساندويشات أثناء جريهم في ساحة المدرسة..أما فراس، فقد وجدت في تكليفه ببعض الأعمال الصغيرة، وسيلة تشغله عن التحرش (البريء) بزميلاته وزملاءه ..أثناء اطلاعي على دفتره وكتابة الملاحظات، أجهد في البحث عن عمل يشغله ويتناسب وطفولته ” ما رأيك لو تجمع الطباشير الملونة وتضعها في علبة منفصلة عن الطباشير البيضاء”..؟أو أطلب منه حمل سلة الأوراق وتفريغها في الحاوية المجاورة لغرفة الصف..
وأحيانا كنت أرسله إلى مكتب المديرة لإحضار المسجل الصغير أو بعض الأوراق..كان فراس طفلا ذكيا سريع البديهة والأداء .. أول من يجيب على الأسئلة وأول من ينهي المطلوب في الكتابة..….مديرة المدرسة، كلما زارت صفي، لا تنفك عن قول: أعرف جيدا أنك لست ممن يتحلى بطول البال أو الهدوء الدائم، ولابد أن أبدي لك دهشتي من تقبلك لهذه (الهيصة) من الاطفال..ودائما أجيب نفس الإجابة: إن طول النفس والهدوء، ضرورة إذا أردنا أن نحبب الصغار بالدراسة، إنها قناعتي بأنني من غير الالتزام بهاتين الصفتين فلا منفعة مني ترجى.. !!!ورغم كل هذا الحرص .. إلا أننا كثيرا ما نقع في أخطاء قد تبدو للآخرين ناتجة عن إهمال أو سوء تقدير…ذات يوم حضرت إلى الصف المعلمة المناوبة تسألني: أين فراس ؟: إنه هناك يجلس في مكانه..: لقد شج رأس ولدا كان يمشي في الشارع ..: كيف.. لم يغادر فراس الصف إلا لتفريغ سلة الأوراق في الحاوبة..وعاد فورا للصف..!!!: نعم هذا صحيح..إلا أن ما حدث أن باب المدرسة كان مفتوحا، ما دفع فضول طفل صغير يسير على الرصيف المحاذي لسور المدرسة، بأن يطل برأسه مستكشفا المكان.فراس الذي كان متجها إلى غرفة الصف، ملوحا بيده السلة البلاستيكية الفارغة، كل ما فعله أن ضرب بالسلة رأس ولد (من الحارة) تعدى (حسب إفادته) على مدرسته، وأكمل سيره إلى غرفة الصف، دون أن يلتفت إلى ما حدث في رأس الصغير.... أتمنى أن يقرأ فراس هذه الحكاية ليعلم أن شقاوته المثيرة للمشاكل ..وشخصيته الفريدة، كانت من الدروس المهمة التي تعلمتها في حياتي المهنية والخاصة..
وأحيانا كنت أرسله إلى مكتب المديرة لإحضار المسجل الصغير أو بعض الأوراق..كان فراس طفلا ذكيا سريع البديهة والأداء .. أول من يجيب على الأسئلة وأول من ينهي المطلوب في الكتابة..….مديرة المدرسة، كلما زارت صفي، لا تنفك عن قول: أعرف جيدا أنك لست ممن يتحلى بطول البال أو الهدوء الدائم، ولابد أن أبدي لك دهشتي من تقبلك لهذه (الهيصة) من الاطفال..ودائما أجيب نفس الإجابة: إن طول النفس والهدوء، ضرورة إذا أردنا أن نحبب الصغار بالدراسة، إنها قناعتي بأنني من غير الالتزام بهاتين الصفتين فلا منفعة مني ترجى.. !!!ورغم كل هذا الحرص .. إلا أننا كثيرا ما نقع في أخطاء قد تبدو للآخرين ناتجة عن إهمال أو سوء تقدير…ذات يوم حضرت إلى الصف المعلمة المناوبة تسألني: أين فراس ؟: إنه هناك يجلس في مكانه..: لقد شج رأس ولدا كان يمشي في الشارع ..: كيف.. لم يغادر فراس الصف إلا لتفريغ سلة الأوراق في الحاوبة..وعاد فورا للصف..!!!: نعم هذا صحيح..إلا أن ما حدث أن باب المدرسة كان مفتوحا، ما دفع فضول طفل صغير يسير على الرصيف المحاذي لسور المدرسة، بأن يطل برأسه مستكشفا المكان.فراس الذي كان متجها إلى غرفة الصف، ملوحا بيده السلة البلاستيكية الفارغة، كل ما فعله أن ضرب بالسلة رأس ولد (من الحارة) تعدى (حسب إفادته) على مدرسته، وأكمل سيره إلى غرفة الصف، دون أن يلتفت إلى ما حدث في رأس الصغير.... أتمنى أن يقرأ فراس هذه الحكاية ليعلم أن شقاوته المثيرة للمشاكل ..وشخصيته الفريدة، كانت من الدروس المهمة التي تعلمتها في حياتي المهنية والخاصة..
شبابيك القلب.. استعراض
استعراضالجميع في المدرسة منهمك في التحضيرات لزيارة شخصية هامة لافتتاح المدرسة ..مرشدين وموظفين من مديرية التربية يتفقدون سير العمل للتأكد من أن كل شيء معد كما يجب أن تكون عليه المدارس..
كنت أحلم بان أعمل أمينة مكتبة.. وتحقق لي ذلك في المدرسة الحديثة .. إلا أن موازنة المدرسة لا تكفي لشراء 100 كتاب ، هذا في حالة لم تقضم لصالح الكتب المقتناة من قبل الوزارة.. كلما ذهبت لطلب خزائن برفوف خشبية ، لا أحظى إلا بالوعود..فما كان مني إلا أن أقترح على مديرة المدرسة شراء واجهات من رفوف (الديكسون) والتي لا تبلغ قيمتها ثمن خزانة خشبية واحدة.. وكان لي ذلك..عملت بعدها على الاتصال في المكتبات العامة ومكتبات الجامعات ولم يكن يومها يوجد سوى جامعتين ، الأردنية واليرموك، واستعنت بالإهداءات التي توفرها كل من مكتبة أمانة العاصمة ومكتبة البلدية و(مؤسسة آل البيت) آنذاك .. وأصبح رصيد المكتبة من الكتب يقدر ب 1600 كتاب على وجه التقريب..إلى أن جاء اليوم الذي أعلمتنا المديرة بأن افتتاح المدرسة سيكون من قبل شخصية هامة وعلينا الاستعداد لهذه الزيارة..أخيرا حظيت المكتبة بزيارة تفقدية من المسئولين في التربية والتعليم..رفوف حديد..؟ وهل هذا كل ما لديك من الكتب..؟التفت المسئول إلى مرافقه : يجب أن تتغير هذه الرفوف ، وعليكم تزويد المدرسة بالكتب، مما هو متوفر لدينا في مكتبة المديرية..التفت المرافق وقال لي : غدا تحضرين إلى المديرية للتوقيع على استلام واجهات خشبية خاصة للمكتبة ، ومن ثم توقعين على استلام 500 كتاب تختارينها من مكتبة المديرية.. وعليك إعادتها بعد انتهاء الاحتفال بافتتاح المدرسة..!!!……كان قد مضى على عملي في التعليم ما يقارب ال20 عاما، وكنت أما لأبناء وبنات في مطلع الشباب، أشعرني الموقف بضآلة وضعف وسوء تقدير لذاتي المهنية والشخصية..أجبت فورا المسئول، الذي سيوقع تقدير التقرير السنوي: لن أستلم أي كتاب سيقدم للمكتبة لمجرد العرض أمام الضيف.. استرسل مرافق المسئول: سنرسل نحن الكتب ونضعها على الرفوف .. لنعيدها لمكتبة المديرية فيما بعد..: أقسم إن جئتم بالكتب للعرض فقط، لسوف أخبر الضيف بأن هذه الكتب، جئ بها من أجل زيارتك فقط، وسوف تعاد بعد مغادرتك المدرسة من حيث أتت..: حسنا.. حسنا .. يمكنك استلام الكتب والخزائن الخشبية غدا .. فورا باشرت بفك واجهات (الديكسون) ..في اليوم الموعود .. هطلت أمطار وسالت سيول ، وأغلقت طرق .. واقتصر الاحتفال على المسئولين في المحافظة..وأصبح لدينا مكتبة مزودة بواجهات من خشب الزان ، تجاوز عدد الكتب يومها ال 2000 كتابhttp://www.ammonnews.net/article.aspx?articleNO=31559عن وكالة عمون الإخبارية
كنت أحلم بان أعمل أمينة مكتبة.. وتحقق لي ذلك في المدرسة الحديثة .. إلا أن موازنة المدرسة لا تكفي لشراء 100 كتاب ، هذا في حالة لم تقضم لصالح الكتب المقتناة من قبل الوزارة.. كلما ذهبت لطلب خزائن برفوف خشبية ، لا أحظى إلا بالوعود..فما كان مني إلا أن أقترح على مديرة المدرسة شراء واجهات من رفوف (الديكسون) والتي لا تبلغ قيمتها ثمن خزانة خشبية واحدة.. وكان لي ذلك..عملت بعدها على الاتصال في المكتبات العامة ومكتبات الجامعات ولم يكن يومها يوجد سوى جامعتين ، الأردنية واليرموك، واستعنت بالإهداءات التي توفرها كل من مكتبة أمانة العاصمة ومكتبة البلدية و(مؤسسة آل البيت) آنذاك .. وأصبح رصيد المكتبة من الكتب يقدر ب 1600 كتاب على وجه التقريب..إلى أن جاء اليوم الذي أعلمتنا المديرة بأن افتتاح المدرسة سيكون من قبل شخصية هامة وعلينا الاستعداد لهذه الزيارة..أخيرا حظيت المكتبة بزيارة تفقدية من المسئولين في التربية والتعليم..رفوف حديد..؟ وهل هذا كل ما لديك من الكتب..؟التفت المسئول إلى مرافقه : يجب أن تتغير هذه الرفوف ، وعليكم تزويد المدرسة بالكتب، مما هو متوفر لدينا في مكتبة المديرية..التفت المرافق وقال لي : غدا تحضرين إلى المديرية للتوقيع على استلام واجهات خشبية خاصة للمكتبة ، ومن ثم توقعين على استلام 500 كتاب تختارينها من مكتبة المديرية.. وعليك إعادتها بعد انتهاء الاحتفال بافتتاح المدرسة..!!!……كان قد مضى على عملي في التعليم ما يقارب ال20 عاما، وكنت أما لأبناء وبنات في مطلع الشباب، أشعرني الموقف بضآلة وضعف وسوء تقدير لذاتي المهنية والشخصية..أجبت فورا المسئول، الذي سيوقع تقدير التقرير السنوي: لن أستلم أي كتاب سيقدم للمكتبة لمجرد العرض أمام الضيف.. استرسل مرافق المسئول: سنرسل نحن الكتب ونضعها على الرفوف .. لنعيدها لمكتبة المديرية فيما بعد..: أقسم إن جئتم بالكتب للعرض فقط، لسوف أخبر الضيف بأن هذه الكتب، جئ بها من أجل زيارتك فقط، وسوف تعاد بعد مغادرتك المدرسة من حيث أتت..: حسنا.. حسنا .. يمكنك استلام الكتب والخزائن الخشبية غدا .. فورا باشرت بفك واجهات (الديكسون) ..في اليوم الموعود .. هطلت أمطار وسالت سيول ، وأغلقت طرق .. واقتصر الاحتفال على المسئولين في المحافظة..وأصبح لدينا مكتبة مزودة بواجهات من خشب الزان ، تجاوز عدد الكتب يومها ال 2000 كتابhttp://www.ammonnews.net/article.aspx?articleNO=31559عن وكالة عمون الإخبارية
شبابيك.. أريد أن أكون
استيقظ قيس من نومه .. دفع باب الحمام.. تأمل في والده يقف أمام المرآه يحلق ذقنه: أهلا يا بطل.. صباح الخير. اتجه إلى المطبخ، أمه تعد الإفطار وتسكب الحليب في الأكواب، ما أن رأته حتى بدأت تناديه بدلال: صباح السكر .. هيا يا عسل اذهب واغسل أسنانك ووجهك لتتناول الفطور قبل أن أسبقك إلى المغسلة..قيس اليوم لم ترق له صيغة الدلع.. فأدار ظهره متجها إلى الصالون.. سمع زئير الأسود يأتي من جهاز التلفاز.. إنها محطته الفضائية المفضلة .. برامجها تدور حول حياة الحيوانات.. اندفع والده نحوه وضمه بقبلة صاخبة: كيفك يا أسد؟تمعن في أبيه الذي بدا مستعدا للخروج، وفجأة وبنبرة جادة قال: بابا أريد أن أكبر الآن..طرقعت ضحكة والده كمن سمع نكته: ما بصير.. الواحد ما بيكبر فجأة.. يحتاج لسنوات حتى يكبر.. هيا أساعدك في لبس ملابسك قبل أن تأتي حافلة الروضة..انخرط قيس فجأة في بكاء مر: أريد أن أكبر الآن..أصاب الذهول والده وهرولت أمه لدى سماعها صراخ طفلها ..نظر الأبوان إلى بعضهما البعض أمام هذا الطلب الغريب..وكمن تذكر شيئا مهما قال الأب: حسنا ولكن، هل تعرف أنك لو كبرت الآن قد يتركك صديقك بشار، ليبحث عن صديق في مثل عمره، كما أن بنت الجيران تالا لن تأتي لتلعب معك، لأنك كبير.. وأيضا.. لن يسمح لك باللعب بالسيارات..وسيكون عليك أن تذهب للعمل، وشراء حاجيات البيت، ودفع النقود للتلفون والكهرباء والحارس، عدا عن تصليح الخزانة والمساعدة في تنظيف البيت .. كما أننا سنضطر لجمع ألعابك من غرفتك لتقديمها لأطفال الأقارب والأصدقاء.. على أي حال سأسأل، إن كان ذلك ممكنا..صمت قيس فجأة وبدا مفكرا..في حافلة المدرسة جلس قيس كعادته في المقعد الذي يلي السائقلم يكن العم نعيم كعادته ، لم ينتبه إلى قيس يلقي عليه تحية الصباحسمع مرافقة الأطفال في الحافلة تسأله: هل غادر ولدك المستشفى؟……في اليوم التاليأثناء متابعته لبرنامجه المفضل عن الأسود..نادى قيس على والده: بابا .. بابا.. لماذا لا أكون حيوانا.. أريد أن أكون أسدافي تلك اللحظة أطل من شاشة التلفاز أسد يمشي مترهلا، بعينين منكسرتين، وسحنة بدت له بلهاء، محاط بسياج من الحديد..التفت كل منهما إلى الآخر وأطلقا معا قهقة مدوية..
تلك أمي..
رفضت أمي أن يعلمني أبي..ك
وقد كان أبي معلماً حازماً
أنا من سيعلمها القراءة والكتابة..
ونظرت في وجه أبي تنتظر..
كنت على مقربة منهما..
وقبل أن نستفيق من دهشتنا
تابعت الأم: ستعطيني كل يوم درسا في القراءة والكتابة والحساب.. وسأدرسها إياه فيما بعد….
بدا أكثر رفقا أثناء تدريسها مما كانه مع أخواتي..
أراها الآن تتهجأ الحروف من وراءه وتترك ليده تضم كفها لرسم الحرف.. هامساً بدفء حميمي: من اليمين إلى اليسار.. من اليمين إلى اليسار..هكذا..عفاك
وأصغي لشجي صوتها تلقنني
أ أسد ب بقرة
يأتينى الآن شجى صوتها مع إيقاع دروزة ماكينة الخياطة.. تدندن على بلد المحبوب وديني
تلفني بجسدها
وتمسك بيدي لأخط الحرف
تهمس برفق.. من اليمين إلى اليسار.. من اليمين إلى اليسار.. هكذا.. عفاك
أمي لم تدخل مدارس.. ولم تتلقى أي تعليم..لا أذكر أن أحداً منا سخر أو استخف بتعليمها.
دأبت كل مساء على تدريسي..
وما أن أنهيت السنة الأولى في المدرسة حتى كنت أقرأ وأكتب كل ما يقع تحت يدي.. ..
عرف عنها طاقة ورغبة في الاكتشاف والتجريب والعمل قل أن يمتلكها إنسان واحد.. كانت عدة نساء في امرأة واحدة
زوجة مليحة وشريكة متفانية..
أم رؤوم ومعلمة مخلصة لعملها.
بعد رحيل والدي..رفضت كل دعواتنا بمغادرة بيتها..
سنقلق عليك
لن أغلق بيت أبوكم فقد أوصاني أن لا أغلق بيت بناته..
احتفظ في رغبته بأن يكون له ولد يحمل اسمه في أعماقه..ولم يصدر عنه يوما ما يؤذي، سواء لأمي أو لنا..بل كان وراء أن تدرس أختي الصغرى الفنون الجميلة حين رآها ترسم على جدران البيت والأبواب ولا أذكر أنه نهاها عن الخربشة على الجدران
لم يفارقه الكتاب..
وأضفى على حياتي فرح بإسمٍ يبعث البهجة لي ولكل من ناداني..
كنت أمازح أمي دوماً.. إلا أبي لم يتحرر من العثمانيين
وبكت معه يوم رحيل عبد الناصر..
أثناء عرض العمل التلفزيوني "إخوة التراب" اتصل بها ابني معتذرا وقد كان يؤلف موسيقى العمل
:أنت جدتي التي ساهمت في موسيقاي.. لكن لا أملك رفض عمل أعرف أني أملك أكثر من غيري ما يبقيك أنت وجدي في ذاكرتي وربما أكثر من ذلك
قبل وفاتها بسنة وبعد أن انتهت من صنع دبس الرمان، شكت من آلام في ظهرها وذهبت لزيارة طبيبها.. كانت تصف له الألم وخجلت من لون أصابعها التي اصطبغت بالسواد من عصر الرمان..
دكتور لا تظن أني لم أغسل يدي قبل زيارتك، تعربشت شجرة الرمان واليوم انتهيت من صنع دبس الرمان فاسودت أصابعي..
ذهل الطبيب: تعربشت الشجرة يا حاجة؟ وتشكين من ظهرك.. لا أعتقد أني أقوى على صعود الدرج..
……
بعد رحيل أمي استعرت كلمات من نيرودا في مطلع وداعها فكتبت.
(أشهد أنك قد عشت.. وكما يليق بالإنسان أن يعيش.. ولم تعرفي من العمر أرذله.. أشهد أنك كنت مدرسة لنا ولأحفادك ومحبيك والأصدقاء في صنع عالم خاص لشيخوخة ملأى بالحياة والتجدد.
عشت ال70 وال80 من عمرك كما لم تعشها سيدة مثلك وكافأك الباري عز وجل بأكرم خاتمة.. حيث دعاك ليسكنك جوار بيته العتيق فطوبى لك راضية مرضية)
وطوبى لأبي وقد اختارك أما لنا وجدة لأولادنا
وكل عام وكل الأمهات والآباء بخير .. ..
وقد كان أبي معلماً حازماً
أنا من سيعلمها القراءة والكتابة..
ونظرت في وجه أبي تنتظر..
كنت على مقربة منهما..
وقبل أن نستفيق من دهشتنا
تابعت الأم: ستعطيني كل يوم درسا في القراءة والكتابة والحساب.. وسأدرسها إياه فيما بعد….
بدا أكثر رفقا أثناء تدريسها مما كانه مع أخواتي..
أراها الآن تتهجأ الحروف من وراءه وتترك ليده تضم كفها لرسم الحرف.. هامساً بدفء حميمي: من اليمين إلى اليسار.. من اليمين إلى اليسار..هكذا..عفاك
وأصغي لشجي صوتها تلقنني
أ أسد ب بقرة
يأتينى الآن شجى صوتها مع إيقاع دروزة ماكينة الخياطة.. تدندن على بلد المحبوب وديني
تلفني بجسدها
وتمسك بيدي لأخط الحرف
تهمس برفق.. من اليمين إلى اليسار.. من اليمين إلى اليسار.. هكذا.. عفاك
أمي لم تدخل مدارس.. ولم تتلقى أي تعليم..لا أذكر أن أحداً منا سخر أو استخف بتعليمها.
دأبت كل مساء على تدريسي..
وما أن أنهيت السنة الأولى في المدرسة حتى كنت أقرأ وأكتب كل ما يقع تحت يدي.. ..
عرف عنها طاقة ورغبة في الاكتشاف والتجريب والعمل قل أن يمتلكها إنسان واحد.. كانت عدة نساء في امرأة واحدة
زوجة مليحة وشريكة متفانية..
أم رؤوم ومعلمة مخلصة لعملها.
بعد رحيل والدي..رفضت كل دعواتنا بمغادرة بيتها..
سنقلق عليك
لن أغلق بيت أبوكم فقد أوصاني أن لا أغلق بيت بناته..
احتفظ في رغبته بأن يكون له ولد يحمل اسمه في أعماقه..ولم يصدر عنه يوما ما يؤذي، سواء لأمي أو لنا..بل كان وراء أن تدرس أختي الصغرى الفنون الجميلة حين رآها ترسم على جدران البيت والأبواب ولا أذكر أنه نهاها عن الخربشة على الجدران
لم يفارقه الكتاب..
وأضفى على حياتي فرح بإسمٍ يبعث البهجة لي ولكل من ناداني..
كنت أمازح أمي دوماً.. إلا أبي لم يتحرر من العثمانيين
وبكت معه يوم رحيل عبد الناصر..
أثناء عرض العمل التلفزيوني "إخوة التراب" اتصل بها ابني معتذرا وقد كان يؤلف موسيقى العمل
:أنت جدتي التي ساهمت في موسيقاي.. لكن لا أملك رفض عمل أعرف أني أملك أكثر من غيري ما يبقيك أنت وجدي في ذاكرتي وربما أكثر من ذلك
قبل وفاتها بسنة وبعد أن انتهت من صنع دبس الرمان، شكت من آلام في ظهرها وذهبت لزيارة طبيبها.. كانت تصف له الألم وخجلت من لون أصابعها التي اصطبغت بالسواد من عصر الرمان..
دكتور لا تظن أني لم أغسل يدي قبل زيارتك، تعربشت شجرة الرمان واليوم انتهيت من صنع دبس الرمان فاسودت أصابعي..
ذهل الطبيب: تعربشت الشجرة يا حاجة؟ وتشكين من ظهرك.. لا أعتقد أني أقوى على صعود الدرج..
……
بعد رحيل أمي استعرت كلمات من نيرودا في مطلع وداعها فكتبت.
(أشهد أنك قد عشت.. وكما يليق بالإنسان أن يعيش.. ولم تعرفي من العمر أرذله.. أشهد أنك كنت مدرسة لنا ولأحفادك ومحبيك والأصدقاء في صنع عالم خاص لشيخوخة ملأى بالحياة والتجدد.
عشت ال70 وال80 من عمرك كما لم تعشها سيدة مثلك وكافأك الباري عز وجل بأكرم خاتمة.. حيث دعاك ليسكنك جوار بيته العتيق فطوبى لك راضية مرضية)
وطوبى لأبي وقد اختارك أما لنا وجدة لأولادنا
وكل عام وكل الأمهات والآباء بخير .. ..
خاطرة .. بعد ال2000
حين طلب إلينا في امتحان الثانوية العامة أن نكتب أحلامنا لعام الألفين . . لم نكن نعرف
أننا سنضطر لاجتياز عشرات السنين لنصل عام ألفين.
كان هذا عام ألف وتسعمائة وخمس وستين . . وكنا نتلهف على انقضاء الأيام المتبقية لنا
في المدرسة! نردد بفرح غامر . . لن نسمع بعد اليوم صوت الجرس ، ولن نضطر للوقوف
في الطابور الصباحي . . ولن يكون هناك من يلقي علينا تعليمات و مواعظ ، أو يقرأ لنا
الشعر والخاطرة وغيرها ، مما يفتتح به الصباح المدرسي. و سنخلع عنا الزي للأبد.
في يوم؛ من هذا العام وأثناء انشغالي بعملي ما بين إعداد نشرة للنشاطات الثقافية وكتابة تقرير عن زيارة للطلاب لمحترف فنان تشكيلي ، في الوقت الذي ترتفع أمامي مجموعة من دواوين الشعر، ألتقط منها بعض المقطوعات لبرنامج الإذاعة المدرسية الصباحي.
بدأت بكتابة التاريخ في رأس الصفحة 10 / 1 . . وصفر صفران ثلاثة أصفار! إنها أصفار الألفين !
حين طلب إلينا أن نكتب أحلامنا لعام الألفين . . كتبت أحلامي بعيدا عن المدارس والطلاب والطالبات والمعلمين والمعلمات. فقد كان الاهتمام الخاص لمعظمنا، اكتشاف عالمنا.
وكنا نحقق ذلك من خلال الإطلاع على كل ما يصل إلى أيدينا من كتب ومجلات ثقافية
ومتابعة المستجدات المحيطة بنا من المذياع. أو الذهاب إلى السينما لحضور فيلم حظي بإجماع عائلي!
وكان الاهتمام العالمي آنذاك ، منصبا على غزو الفضاء والصعود إلى القمر ، فيما كان
الشغل الشاغل لأسرتنا والمجتمع المحيط بنا ، قضايا النهوض الوطني والتحرر من الاحتلال والاستعمار في كل من فلسطين والجزائر والعالم العربي . . حتى الكونغو!
وكانت أحلامنا بمنأى عن "الألكترونيات" المذهلة التي أنجبت "الريموت والموبايل والإنترنت".
وكنت أحلم . . بالصعود إلى القمر !
لم أصعد إلى القمر . . ولم أغادر باحة المدرسة بعد . . ! وأخافني الكمبيوتر والإنترنت أيضا!
و ما زلت حتى هذه اللحظة أسمع قرع الجرس مع تدافع خطوات الطلبة.
لكنني أزعم أنني اكتشفت عوالم وآفاقا جديدة أرحب مما وجد على كوكب القمر!
ففي كل صباح ، أفواجا جديدة لأطفال و يافعين . . صبايا وفتيان. كل منهم كوكب يستحق منا التعرف عليه لاكتشافه
أحببتهم و تصادقنا . . غادروا و توزعوا في أنحاء الوطن وربما في أنحاء العالم . . التقي أحيانا بعضا منهم . . وأسمع عن البعض في بعض الأحيان.
وما زلت حتى هذه اللحظة أصطدم بحقيبة هنا و حقيبة هناك . . وأكاد ألمح ابتسامة ماكرة لشقاوة خبيثة بريئة . . اعرفها جيدا.
ربما أكون قد علمتهم بعضا مما أعلم . . لكن ومما لا شك فيه أنهم علموني الكثير الكثير!
صحيفة الرأي الأردنية
25/12/2000
أننا سنضطر لاجتياز عشرات السنين لنصل عام ألفين.
كان هذا عام ألف وتسعمائة وخمس وستين . . وكنا نتلهف على انقضاء الأيام المتبقية لنا
في المدرسة! نردد بفرح غامر . . لن نسمع بعد اليوم صوت الجرس ، ولن نضطر للوقوف
في الطابور الصباحي . . ولن يكون هناك من يلقي علينا تعليمات و مواعظ ، أو يقرأ لنا
الشعر والخاطرة وغيرها ، مما يفتتح به الصباح المدرسي. و سنخلع عنا الزي للأبد.
في يوم؛ من هذا العام وأثناء انشغالي بعملي ما بين إعداد نشرة للنشاطات الثقافية وكتابة تقرير عن زيارة للطلاب لمحترف فنان تشكيلي ، في الوقت الذي ترتفع أمامي مجموعة من دواوين الشعر، ألتقط منها بعض المقطوعات لبرنامج الإذاعة المدرسية الصباحي.
بدأت بكتابة التاريخ في رأس الصفحة 10 / 1 . . وصفر صفران ثلاثة أصفار! إنها أصفار الألفين !
حين طلب إلينا أن نكتب أحلامنا لعام الألفين . . كتبت أحلامي بعيدا عن المدارس والطلاب والطالبات والمعلمين والمعلمات. فقد كان الاهتمام الخاص لمعظمنا، اكتشاف عالمنا.
وكنا نحقق ذلك من خلال الإطلاع على كل ما يصل إلى أيدينا من كتب ومجلات ثقافية
ومتابعة المستجدات المحيطة بنا من المذياع. أو الذهاب إلى السينما لحضور فيلم حظي بإجماع عائلي!
وكان الاهتمام العالمي آنذاك ، منصبا على غزو الفضاء والصعود إلى القمر ، فيما كان
الشغل الشاغل لأسرتنا والمجتمع المحيط بنا ، قضايا النهوض الوطني والتحرر من الاحتلال والاستعمار في كل من فلسطين والجزائر والعالم العربي . . حتى الكونغو!
وكانت أحلامنا بمنأى عن "الألكترونيات" المذهلة التي أنجبت "الريموت والموبايل والإنترنت".
وكنت أحلم . . بالصعود إلى القمر !
لم أصعد إلى القمر . . ولم أغادر باحة المدرسة بعد . . ! وأخافني الكمبيوتر والإنترنت أيضا!
و ما زلت حتى هذه اللحظة أسمع قرع الجرس مع تدافع خطوات الطلبة.
لكنني أزعم أنني اكتشفت عوالم وآفاقا جديدة أرحب مما وجد على كوكب القمر!
ففي كل صباح ، أفواجا جديدة لأطفال و يافعين . . صبايا وفتيان. كل منهم كوكب يستحق منا التعرف عليه لاكتشافه
أحببتهم و تصادقنا . . غادروا و توزعوا في أنحاء الوطن وربما في أنحاء العالم . . التقي أحيانا بعضا منهم . . وأسمع عن البعض في بعض الأحيان.
وما زلت حتى هذه اللحظة أصطدم بحقيبة هنا و حقيبة هناك . . وأكاد ألمح ابتسامة ماكرة لشقاوة خبيثة بريئة . . اعرفها جيدا.
ربما أكون قد علمتهم بعضا مما أعلم . . لكن ومما لا شك فيه أنهم علموني الكثير الكثير!
صحيفة الرأي الأردنية
25/12/2000
ال60
كتبهاربيعة الناصر ، في 3 آذار 2007 الساعة: 07:56 ص
استيقظ كل صباح وأثناء تناول القهوة أبدأ في ترتيب برنامجي اليومي..
من مرور على مكتبة أطفال ومتابعة العمل فيها، سماع ملاحظات المشرفات وما يستجد من احتياجات للمكتبة، متابعة التقارير والأبحاث المطلوبة، وإجراء المكالمات الضرورية المتعلقة بارتباطات جديدة..
أبحث بين هذه الالتزامات عن فسحة تتيح لي الالتقاء بحفيدي الصغيرين لإضفاء بعض البهجة على نهاري..أو الالتقاء مع صديقة أو صديق حول فنجان قهوة
أنا امرأة نهارية.. توقظني الشمس كل صباح..أعمل طوال النهار وحين تقترب الشمس من المغيب يشتد توقي للعودة للبيت..
في البيت أفتح بوابة الانترنت كما أشرع باب مكتبة.. أعد الطعام وأتابع نشرات الأخبار وأقلب صفحات كتاب أقرأ منه بضع صفحات.. أكتب بضع رسائل وأستكمل بحثا كلفت به.. أحيانا أتمنى لو تزداد ساعات اليوم عن أربع وعشرين ساعة..
حين تقدمت بطلب التقاعد من عملي كمعلمة في وزارة التربية والتعليم.. وكنت قد تجاوزت العقد الرابع من العمر، أصابت الدهشة معظم الأقارب والأصدقاء….
أنت تتقاعدين وقد تجاوز أبناءك مرحلة الرعاية الحثيثة.. ماذا ستفعلين في البيت..
أذكر الآن.. وأنا أشهد فصل الربيع للمرة ال60..
في تلك المرحلة كنت أحس أنني بت إمرأة مستنفذة.. أطفال وبيت وعمل في المدرسة..كانت لدي أمنيات بسيطة أتمنى تحقيقها كأم وامرأة وكمهتمة بما يدور حولي في الحياة..
أشتاق للاستيقاظ من غير هرولة.. وأتمنى إعداد طعام مطهو على نار هادئة لأسرتي الصغيرة..الاستماع لأحلام أبنائي والاستمتاع معهم
قراءة كتب مؤجلة.. متابعة نمو النباتات المنزلية والحديقة..
ارتياد دور السينما من غير أن أغفو في منتصف الفيلم من شدة الإرهاق..
وجدتني ومن غير تخطيط للفكرة أجيب كل من يسألني هل حقا تقاعدت وستجلسين في البيت..
لا.. بل لأخطط لمستقبلي الآتي.. وأصبح مستقبلي القادم هاجسي..
سنوات.. ويغادر الأبناء البيت.. ويصبح لكل واحد منهم عالمه الخاص.. وماذا عني؟ أين عالمي أنا؟
أراني الآن وبعد مرور خمسة عشر سنة ما زلت أعمل ولساعات طويلة.. إنما بانتقائية وضمن اهتماماتي المحببة.. وأعمل فيما يتبقى لي من وقت على تدوين ذاكرة الفصول الأربعة في حياتنا..
ليس هناك أجمل من أن تحظى بشعور الاستمتاع بالعمل..
كغيري من الناس في بلادي لم يكن لي خيار في صياغة حياتي أو اختيار عملي ومهنتي..
أزعم أني ما زلت أبحث عني..
أجد بعضي في أبنائي، وبعضي الآخر في من رافقتهم في تعلمهم..وأحيانا أجدني في من رحل عن الدنيا.. وقد أكتشفني في أناس تعرفت عليهم حديثا..
في أماكن عشتها، وأخرى ما زلت أسعى لاكتشافها..لا أزعم أن أحلامي في الحياة قد تحققت.. إنما لا أنكر أن ما تحقق لي في الحياة يروق لي.. رغم ما رافقه من إخفاقات في كثير من الأحيان..
أجمل ما في الأمر اليوم أني أستعد الآن لاستقبال الربيع ال60 وقد استكملت مقرر الأمومة بدرجة جيد حسب اعتقادي.. رغم ما رافقها من تبعات متعبة من مقرر الزوجية
وسأجمع صباح غد في طريقي زهور الأقحوان والدحنون والسوسن التي لم تتوقف عن التجدد في بلادي في كل سنة من شهر أذار..وكل ربيع والحياة بخير
ربيعة الناصر
3 آذار 2006
rabeea.alnasser@gmail.com
استيقظ كل صباح وأثناء تناول القهوة أبدأ في ترتيب برنامجي اليومي..
من مرور على مكتبة أطفال ومتابعة العمل فيها، سماع ملاحظات المشرفات وما يستجد من احتياجات للمكتبة، متابعة التقارير والأبحاث المطلوبة، وإجراء المكالمات الضرورية المتعلقة بارتباطات جديدة..
أبحث بين هذه الالتزامات عن فسحة تتيح لي الالتقاء بحفيدي الصغيرين لإضفاء بعض البهجة على نهاري..أو الالتقاء مع صديقة أو صديق حول فنجان قهوة
أنا امرأة نهارية.. توقظني الشمس كل صباح..أعمل طوال النهار وحين تقترب الشمس من المغيب يشتد توقي للعودة للبيت..
في البيت أفتح بوابة الانترنت كما أشرع باب مكتبة.. أعد الطعام وأتابع نشرات الأخبار وأقلب صفحات كتاب أقرأ منه بضع صفحات.. أكتب بضع رسائل وأستكمل بحثا كلفت به.. أحيانا أتمنى لو تزداد ساعات اليوم عن أربع وعشرين ساعة..
حين تقدمت بطلب التقاعد من عملي كمعلمة في وزارة التربية والتعليم.. وكنت قد تجاوزت العقد الرابع من العمر، أصابت الدهشة معظم الأقارب والأصدقاء….
أنت تتقاعدين وقد تجاوز أبناءك مرحلة الرعاية الحثيثة.. ماذا ستفعلين في البيت..
أذكر الآن.. وأنا أشهد فصل الربيع للمرة ال60..
في تلك المرحلة كنت أحس أنني بت إمرأة مستنفذة.. أطفال وبيت وعمل في المدرسة..كانت لدي أمنيات بسيطة أتمنى تحقيقها كأم وامرأة وكمهتمة بما يدور حولي في الحياة..
أشتاق للاستيقاظ من غير هرولة.. وأتمنى إعداد طعام مطهو على نار هادئة لأسرتي الصغيرة..الاستماع لأحلام أبنائي والاستمتاع معهم
قراءة كتب مؤجلة.. متابعة نمو النباتات المنزلية والحديقة..
ارتياد دور السينما من غير أن أغفو في منتصف الفيلم من شدة الإرهاق..
وجدتني ومن غير تخطيط للفكرة أجيب كل من يسألني هل حقا تقاعدت وستجلسين في البيت..
لا.. بل لأخطط لمستقبلي الآتي.. وأصبح مستقبلي القادم هاجسي..
سنوات.. ويغادر الأبناء البيت.. ويصبح لكل واحد منهم عالمه الخاص.. وماذا عني؟ أين عالمي أنا؟
أراني الآن وبعد مرور خمسة عشر سنة ما زلت أعمل ولساعات طويلة.. إنما بانتقائية وضمن اهتماماتي المحببة.. وأعمل فيما يتبقى لي من وقت على تدوين ذاكرة الفصول الأربعة في حياتنا..
ليس هناك أجمل من أن تحظى بشعور الاستمتاع بالعمل..
كغيري من الناس في بلادي لم يكن لي خيار في صياغة حياتي أو اختيار عملي ومهنتي..
أزعم أني ما زلت أبحث عني..
أجد بعضي في أبنائي، وبعضي الآخر في من رافقتهم في تعلمهم..وأحيانا أجدني في من رحل عن الدنيا.. وقد أكتشفني في أناس تعرفت عليهم حديثا..
في أماكن عشتها، وأخرى ما زلت أسعى لاكتشافها..لا أزعم أن أحلامي في الحياة قد تحققت.. إنما لا أنكر أن ما تحقق لي في الحياة يروق لي.. رغم ما رافقه من إخفاقات في كثير من الأحيان..
أجمل ما في الأمر اليوم أني أستعد الآن لاستقبال الربيع ال60 وقد استكملت مقرر الأمومة بدرجة جيد حسب اعتقادي.. رغم ما رافقها من تبعات متعبة من مقرر الزوجية
وسأجمع صباح غد في طريقي زهور الأقحوان والدحنون والسوسن التي لم تتوقف عن التجدد في بلادي في كل سنة من شهر أذار..وكل ربيع والحياة بخير
ربيعة الناصر
3 آذار 2006
rabeea.alnasser@gmail.com
في بلاد العرب السعيدة
من غسانية إلى أروى اليمانية…
تنبهت من نوم لا أدري كم استغرقني… حتى بت أظن إني نمت قرون طويلة
وجدتني في بيت صنعاني الصنعة..ومن بعيد ينساب صوت يردد.. يانسيم الصباح سلم على باهي الخد.. نبهه من منامه..
في مقيل يماني… شبابيكي مشرعة على بيوت آزال… المدينة ما زالت خاشعة والبنايات بدت مثل جداريات أبدعتها ريشة رسام عاشق…
شبابيك البيوت مفتوحة على دهشة محدقة لمن مروا من هنا..
علي أن أهبط خمس وخمسون درجة لأحتسي قهوة الصباح في المقشم( الحديقة )..
درجة سميكة وأخرى رقيقة..، كما هي الحياة..!
في بستان البيت الصنعاني.. بيت علي الهيصمي الذي تحول إلى نزل حميم.. يأتيني رطن غريب اللسان.. يضع النادل أمامي قائمة الطعام بأسماء غير يمانية..
أسأله: ألا تصنعون الأكل اليماني؟
يجيبني بالنفي.. بعد الانتهاء من تناول الطعام أكتشف أنه أعد بنكهة يمانية فريدة في المذاق والصنعة….
مذاق الأطعمة هنا ليس لها شبيه… من حنيد وعقدة ورز مكلل بالزبيب الأخضر ومخبازة وحلوى بنت الصحن!
تتسلل باقة ضوء ملون من قمريات بأعلى الجدار.. صمتك يأتيني قاسيا.. كأنه قد من صخرة شاهقة في جبل رم لم تلامسها الرمال الوردية بعد!
هل يتوجب علينا نحن المهجرين من يمن.. أن نؤوب إليها.. لتشف أرواحنا من عبق تمتلئ به الأمكنة؟
أرتدي ملابس كنت فيها برفقتك.. التفاتتك الحميمة تعشعش في الذاكرة… فأحسبك يدك تلامس كتفي..
هل قلت بأنك غادرت عدن قبل عشرات السنين عنوة…!
لن أسألك الأن كيف للشاعر أن يجعل من الأوشاج مزقا مبعثرة…!
كيف جئت هنا.. هل كنت أنت من دفع بي إلى الرحيل من المدينة الصخرية إلى مدينة النقوش الملونة….؟
لذت بصنعاء منك..
أهرب منك.. فأجدني أبحث عنك وعني… في سمسمرة النحاس… ألمسك في حبة مرجان عدنية مرة.. وألمسني في عقد من عقيق يماني..
في باب السباح من صنعاء القديمة… في علية تطل على السيالة…
هل سبق وشهدت سيل عمان حين كان يحد في الشتاء… قبل أن يصبح اسمه سقف السيل…؟
بالأمس تمنيت المطر… طمأنني العامري علي.. أنها ستمطر غدا.. هكذا تكهن.. فأمطرت والسيالة حدت.. الشارع صار نهرا جاريا..
أسمع صدى لميسون البجدلية تردد وبيت ينبح الطراق دوني… أحب إلي من لبس الشفوف…
لو أن معاوية أتى بك ياميسون إلى صنعا لما لامستك الغربة…
هنا البيوت شيدت ليسكنها الأطفال والأجداد… هنا البيوت زخرفت بعروق الريحان وزهرات الفل والكادي…. فبقيت محتفظة بزهو بلقيس..
لو أنك كنت هنا… يوم ذهبنا في رحلة للمحويت… إنها بلاد يرقص في سماءها الغيم… سفوح اصطفت الحواكير بها مستلهمة انحناءات السفوح… بيوت معلقة على قمم الجبال تحوم حولها السحب…!
أصعد الدرج الحجري.. أبحث عن المفتاح… أفتح باب عليتي… ينتشر عبق من بخور آزال ليعطر أنحاء المكان…
ويتسلل غناء شجن… ألا ياليت لي في الأمر صنعة… وأسلا من سلى عودي وبراني.. …
عن موقع عناوين ثقافية
تنبهت من نوم لا أدري كم استغرقني… حتى بت أظن إني نمت قرون طويلة
وجدتني في بيت صنعاني الصنعة..ومن بعيد ينساب صوت يردد.. يانسيم الصباح سلم على باهي الخد.. نبهه من منامه..
في مقيل يماني… شبابيكي مشرعة على بيوت آزال… المدينة ما زالت خاشعة والبنايات بدت مثل جداريات أبدعتها ريشة رسام عاشق…
شبابيك البيوت مفتوحة على دهشة محدقة لمن مروا من هنا..
علي أن أهبط خمس وخمسون درجة لأحتسي قهوة الصباح في المقشم( الحديقة )..
درجة سميكة وأخرى رقيقة..، كما هي الحياة..!
في بستان البيت الصنعاني.. بيت علي الهيصمي الذي تحول إلى نزل حميم.. يأتيني رطن غريب اللسان.. يضع النادل أمامي قائمة الطعام بأسماء غير يمانية..
أسأله: ألا تصنعون الأكل اليماني؟
يجيبني بالنفي.. بعد الانتهاء من تناول الطعام أكتشف أنه أعد بنكهة يمانية فريدة في المذاق والصنعة….
مذاق الأطعمة هنا ليس لها شبيه… من حنيد وعقدة ورز مكلل بالزبيب الأخضر ومخبازة وحلوى بنت الصحن!
تتسلل باقة ضوء ملون من قمريات بأعلى الجدار.. صمتك يأتيني قاسيا.. كأنه قد من صخرة شاهقة في جبل رم لم تلامسها الرمال الوردية بعد!
هل يتوجب علينا نحن المهجرين من يمن.. أن نؤوب إليها.. لتشف أرواحنا من عبق تمتلئ به الأمكنة؟
أرتدي ملابس كنت فيها برفقتك.. التفاتتك الحميمة تعشعش في الذاكرة… فأحسبك يدك تلامس كتفي..
هل قلت بأنك غادرت عدن قبل عشرات السنين عنوة…!
لن أسألك الأن كيف للشاعر أن يجعل من الأوشاج مزقا مبعثرة…!
كيف جئت هنا.. هل كنت أنت من دفع بي إلى الرحيل من المدينة الصخرية إلى مدينة النقوش الملونة….؟
لذت بصنعاء منك..
أهرب منك.. فأجدني أبحث عنك وعني… في سمسمرة النحاس… ألمسك في حبة مرجان عدنية مرة.. وألمسني في عقد من عقيق يماني..
في باب السباح من صنعاء القديمة… في علية تطل على السيالة…
هل سبق وشهدت سيل عمان حين كان يحد في الشتاء… قبل أن يصبح اسمه سقف السيل…؟
بالأمس تمنيت المطر… طمأنني العامري علي.. أنها ستمطر غدا.. هكذا تكهن.. فأمطرت والسيالة حدت.. الشارع صار نهرا جاريا..
أسمع صدى لميسون البجدلية تردد وبيت ينبح الطراق دوني… أحب إلي من لبس الشفوف…
لو أن معاوية أتى بك ياميسون إلى صنعا لما لامستك الغربة…
هنا البيوت شيدت ليسكنها الأطفال والأجداد… هنا البيوت زخرفت بعروق الريحان وزهرات الفل والكادي…. فبقيت محتفظة بزهو بلقيس..
لو أنك كنت هنا… يوم ذهبنا في رحلة للمحويت… إنها بلاد يرقص في سماءها الغيم… سفوح اصطفت الحواكير بها مستلهمة انحناءات السفوح… بيوت معلقة على قمم الجبال تحوم حولها السحب…!
أصعد الدرج الحجري.. أبحث عن المفتاح… أفتح باب عليتي… ينتشر عبق من بخور آزال ليعطر أنحاء المكان…
ويتسلل غناء شجن… ألا ياليت لي في الأمر صنعة… وأسلا من سلى عودي وبراني.. …
عن موقع عناوين ثقافية
الجمعة، 17 أبريل 2009
لابد من صنعاء .. وإن طال السفر
بلاد العرب السعيدة أو بلاد اليمن السعيد.. إسم ما زال مطبوعا في الذاكرة.. يوم كان يمتد مكتوبا في الجنوب الغربي من خارطة الجزيرة العربية.. ..خيالات لبلاد اليمن بقيت تراودني عن نفسها وتبعث في ذهني شتى الأسئلة.. الأطلس الجغرافي وحكايات الكتب كانتا من أمتع الألعاب المحببة لدينا نحن الصغار.. نطوف من خلالهما العالم.. نعبث بشواطئه.. ونتسلق جباله.. ونجول أسواق المدن.. نرافق الشخصيات التاريخية والأسطورية ونتمثلها.. غيرأن وقع البلاد السعيدة في الخيال كان الأكثر إثارة!
ربما بسبب كلمة السعيدة.. فالسعادة مطمح للصغار مثلما هو للكبار..
فالحكايات تختم دائما بـ (وعاش الجميع في سعادة وهناء)
قرأت سيف ذي يزن، وأذهلتني ملكة سبأ بلقيس والهدهد..
وكل حكاية مزجت التاريخ بالأسطورة..
وكغيري من أبناء جيل نشأ قبل اختراع التلفاز والأقمار الصناعية والشبكة العنكبوتية..
كانت الكلمة المكتوبة المصدر الوحيد للمعرفة والاكتشاف والمتعة..
وحين قرأت قصة (أليس.. في بلاد العجائب)..
تخيلتني (أليس) ولكن في البلاد السعيدة.. ما أنساني كل ما وقع لأليس في بلاد العجائب!وتصادف أن وقع بيدي عدد من مجلة العربي التي تفرد صفحات خاصة عن البلدان العربية.. أعتقد أن ذلك كان في بداية الستينيات.. استطلاع مصور، ربما كان أول استطلاع عن اليمن وبالصور الملونة..
أذهلتني العمائر المطرزة بالزخارف والنقوش.. وسحرتني بيوت شاهقة اعتلت سنم الجبال..
من ذلك اليوم دخلت في حلم زيارة بلاد اليمن.. قد يراني البعض قد تطرفت في رومانسيتي..
وقد لا يصدق البعض الآخر بأنني تنازلت برضا عن رحلة شبه مجانية إلى أرض الأحلام أمريكا حين أتيحت لي زيارة اليمن..
ربما لأن التاريخ بات هاجسي، خاصة ونحن كما يروى لنا أبناء أرض بني غسان ننتمي لهذه الأرض..
ورغم شح المعلومات دأبت على البحث في الكتب والمجلات عن ما يشبع فضولي..
وكانت زيارة بلاد اليمن مجرد حلم لمن ازدحمت حياته بالعمل ومسؤوليات الأسرة والأطفال..
ولأن اهتمامي الخاص وعملي في التعليم والمكتبات..
ومن ثم في الصحافة الثقافية والإعداد للأفلام الوثائقية..
ولأني مسكونة بالمكان..
كبر عندي هاجس زيارة اليمن.. رغم كل ما يشاع ويقال عن اليمن كبلد بعيد عن التحضر والمعاصرة..مع توفر الفضائيات والإنترنت بات بمقدوري أن أرتحل بين بيوتات اليمن.. جباله وسهوله..
إلا أن هذا الارتحال غير مكتمل.. فالمكان وكل مكان يتمتع بعبق خاص..
إلى أن جاءتني ذات مساء صديقتي الشاعرة والصحفية سميرة عوض.. مبتسمة تخبرني أنها مدعوة لليمن للمشاركة في ملتقى للشعراء الشباب العرب..
: أدري توقك لزيارة اليمن، لذا أنا خجلة، أن أذهب ولا تذهبين..!سرحت قليلا.. اتصلت بأولادي وبمكتب الطيران..
ولم أجد نفسي إلا وأنا في صنعاء!!
حين ذهبنا في جولة لزيارة صنعاء القديمة..
بدت لي صنعاء خلف ” باب يمن ” مثل كتاب مصور لألف ليلة وليلة.. وبدأ مرافقنا - من الاخوة الشعراء اليمنيين - يشرح لنا ونحن جلوس في الحافلة عن صنعاء القديمة..
لم أتمالك وأنا أعرف أن وقت القراءات المسائية قد اقترب، من أن أهتف به: وهل تعتقد أنني سأكتفي بمشاهدة صنعاء من وراء زجاج النوافذ.. كمن يتصفح صورا أو يشاهد التلفاز..
أريد أن أمشي في الطرقات التي عرفتها مصورة.. وألامس النقوش وزخارف الجدران وأشم رائحة المكان.. وأشهد الفضاءات التي قرأت عنها كثيرا..شعت ابتسامة حميمة على وجه الشاعر عبد الرحمن غيلان.. أوقف الباص على الفور..
واندفعت وباقي الضيوف الشعراء رغم انهمار المطر الغزير.. نتقافز مبتهجين ونغوص في سيل المياه يملأنا فرح طفولي.. أضعتني عن قصد..
إلى إن سمعت طفلا صنعانيا يهتف باسمي لألتحق بالمجموعة..
ضممته مبتهجة لم أصدق أن هناك من يناديني في أسواق صنعاء !!!
كنت كمن يزور بيت جدته.. يفتح الدواليب والصناديق ليكتشف مكنونات الجدة المخبأة..
اليوم غادر الشعراء الضيوف العرب صنعاء ..
أما أنا فقد آثرت البقاء لأيام أخر.. ولأقيم بضعة أيام في بيوتات صنعاء العتيقة.. أجتاز من خلالها الزمن وأقرأ التاريخ.. أتجول كمغترب آب إلى بيته بعد غياب طويل يبحث في زوايا الأدراج المنسية وفي الممرات عن آثار من عمر المكان قبل آلاف السنين..
لا أريدني أن أطوف المكان كسائحة.. فهذا المكان يخصني أيضا.. وسأري حفيدي قيس وعلي صور سوق الملح وسوق باب السباح والأطباق اليمانية ومعوز حضرموت..
سأحدثهم عن أروى الباحثة في صناديق الجدات وكل ما حوى الموروث الشعبي من فنون.. عن أحمد السلامي وسوسن العريقي..
وعن قمر لم يكتمل بعد.. كما سألقي على كل منهما بردا يمانيا يفوح بالفل والكاذي التهامي..إذا كانت الفنون - وكما يتردد دائما - المعيار الحقيقي للمستوى الحضاري للبلد.. فإن اليمن تستحق أن يطلق عليها بلداً متحضراً.. ففيها تكتمل شروط الحضارة.. الفن التشكيلي.. إنه هنا في البيوت والنوافذ والجدران والأبواب.. الرقص التعبيري والموسيقي.. الشعر والأدب.. فكل أبناء اليمن شعراء.. الطعام.. مذاقات تكونت بمزاج فنان.. كل صباح جديد تتزايد الدهشة من كل ما حوت بلاد اليمن السعيد من فنون..
أليست اليمن شاهدا لنا نحن العرب بحضارتها المدينية التي سبقت كل الحضارات.. إنها هويتنا الحضارية في عالم باتت تطغى عليه حضارات المصانعة..
وتحية لليمن ووزارة الثقافة حيث يلتئم شتات أبناءه من يعرب.
عن صحيفة الثورة اليمنية 4 إيار 2006
ربما بسبب كلمة السعيدة.. فالسعادة مطمح للصغار مثلما هو للكبار..
فالحكايات تختم دائما بـ (وعاش الجميع في سعادة وهناء)
قرأت سيف ذي يزن، وأذهلتني ملكة سبأ بلقيس والهدهد..
وكل حكاية مزجت التاريخ بالأسطورة..
وكغيري من أبناء جيل نشأ قبل اختراع التلفاز والأقمار الصناعية والشبكة العنكبوتية..
كانت الكلمة المكتوبة المصدر الوحيد للمعرفة والاكتشاف والمتعة..
وحين قرأت قصة (أليس.. في بلاد العجائب)..
تخيلتني (أليس) ولكن في البلاد السعيدة.. ما أنساني كل ما وقع لأليس في بلاد العجائب!وتصادف أن وقع بيدي عدد من مجلة العربي التي تفرد صفحات خاصة عن البلدان العربية.. أعتقد أن ذلك كان في بداية الستينيات.. استطلاع مصور، ربما كان أول استطلاع عن اليمن وبالصور الملونة..
أذهلتني العمائر المطرزة بالزخارف والنقوش.. وسحرتني بيوت شاهقة اعتلت سنم الجبال..
من ذلك اليوم دخلت في حلم زيارة بلاد اليمن.. قد يراني البعض قد تطرفت في رومانسيتي..
وقد لا يصدق البعض الآخر بأنني تنازلت برضا عن رحلة شبه مجانية إلى أرض الأحلام أمريكا حين أتيحت لي زيارة اليمن..
ربما لأن التاريخ بات هاجسي، خاصة ونحن كما يروى لنا أبناء أرض بني غسان ننتمي لهذه الأرض..
ورغم شح المعلومات دأبت على البحث في الكتب والمجلات عن ما يشبع فضولي..
وكانت زيارة بلاد اليمن مجرد حلم لمن ازدحمت حياته بالعمل ومسؤوليات الأسرة والأطفال..
ولأن اهتمامي الخاص وعملي في التعليم والمكتبات..
ومن ثم في الصحافة الثقافية والإعداد للأفلام الوثائقية..
ولأني مسكونة بالمكان..
كبر عندي هاجس زيارة اليمن.. رغم كل ما يشاع ويقال عن اليمن كبلد بعيد عن التحضر والمعاصرة..مع توفر الفضائيات والإنترنت بات بمقدوري أن أرتحل بين بيوتات اليمن.. جباله وسهوله..
إلا أن هذا الارتحال غير مكتمل.. فالمكان وكل مكان يتمتع بعبق خاص..
إلى أن جاءتني ذات مساء صديقتي الشاعرة والصحفية سميرة عوض.. مبتسمة تخبرني أنها مدعوة لليمن للمشاركة في ملتقى للشعراء الشباب العرب..
: أدري توقك لزيارة اليمن، لذا أنا خجلة، أن أذهب ولا تذهبين..!سرحت قليلا.. اتصلت بأولادي وبمكتب الطيران..
ولم أجد نفسي إلا وأنا في صنعاء!!
حين ذهبنا في جولة لزيارة صنعاء القديمة..
بدت لي صنعاء خلف ” باب يمن ” مثل كتاب مصور لألف ليلة وليلة.. وبدأ مرافقنا - من الاخوة الشعراء اليمنيين - يشرح لنا ونحن جلوس في الحافلة عن صنعاء القديمة..
لم أتمالك وأنا أعرف أن وقت القراءات المسائية قد اقترب، من أن أهتف به: وهل تعتقد أنني سأكتفي بمشاهدة صنعاء من وراء زجاج النوافذ.. كمن يتصفح صورا أو يشاهد التلفاز..
أريد أن أمشي في الطرقات التي عرفتها مصورة.. وألامس النقوش وزخارف الجدران وأشم رائحة المكان.. وأشهد الفضاءات التي قرأت عنها كثيرا..شعت ابتسامة حميمة على وجه الشاعر عبد الرحمن غيلان.. أوقف الباص على الفور..
واندفعت وباقي الضيوف الشعراء رغم انهمار المطر الغزير.. نتقافز مبتهجين ونغوص في سيل المياه يملأنا فرح طفولي.. أضعتني عن قصد..
إلى إن سمعت طفلا صنعانيا يهتف باسمي لألتحق بالمجموعة..
ضممته مبتهجة لم أصدق أن هناك من يناديني في أسواق صنعاء !!!
كنت كمن يزور بيت جدته.. يفتح الدواليب والصناديق ليكتشف مكنونات الجدة المخبأة..
اليوم غادر الشعراء الضيوف العرب صنعاء ..
أما أنا فقد آثرت البقاء لأيام أخر.. ولأقيم بضعة أيام في بيوتات صنعاء العتيقة.. أجتاز من خلالها الزمن وأقرأ التاريخ.. أتجول كمغترب آب إلى بيته بعد غياب طويل يبحث في زوايا الأدراج المنسية وفي الممرات عن آثار من عمر المكان قبل آلاف السنين..
لا أريدني أن أطوف المكان كسائحة.. فهذا المكان يخصني أيضا.. وسأري حفيدي قيس وعلي صور سوق الملح وسوق باب السباح والأطباق اليمانية ومعوز حضرموت..
سأحدثهم عن أروى الباحثة في صناديق الجدات وكل ما حوى الموروث الشعبي من فنون.. عن أحمد السلامي وسوسن العريقي..
وعن قمر لم يكتمل بعد.. كما سألقي على كل منهما بردا يمانيا يفوح بالفل والكاذي التهامي..إذا كانت الفنون - وكما يتردد دائما - المعيار الحقيقي للمستوى الحضاري للبلد.. فإن اليمن تستحق أن يطلق عليها بلداً متحضراً.. ففيها تكتمل شروط الحضارة.. الفن التشكيلي.. إنه هنا في البيوت والنوافذ والجدران والأبواب.. الرقص التعبيري والموسيقي.. الشعر والأدب.. فكل أبناء اليمن شعراء.. الطعام.. مذاقات تكونت بمزاج فنان.. كل صباح جديد تتزايد الدهشة من كل ما حوت بلاد اليمن السعيد من فنون..
أليست اليمن شاهدا لنا نحن العرب بحضارتها المدينية التي سبقت كل الحضارات.. إنها هويتنا الحضارية في عالم باتت تطغى عليه حضارات المصانعة..
وتحية لليمن ووزارة الثقافة حيث يلتئم شتات أبناءه من يعرب.
عن صحيفة الثورة اليمنية 4 إيار 2006
الأربعاء، 1 أبريل 2009
مسقط .. هيبة وبهاء
إنها الزيارة الثانية إلى سلطنة عمان.... تبدو لي مدينة مسقط كما لو أنها ما عرفت يوما الشقاء.. وبالرغم من أن زيارتي جاءت بعد سبع أشهر من مباغتة جونو لهذه المدينة الوادعة.. إلا أنها تمكنت من استعادة هيبتها وجمالها بكل رصانة وهدوء.. سيدة مدللة.. تستلقي بين أحضان الجبال الحصينة.. يدغدغ موج البحر خاصرتها ..وتستسلم هانئة لقيلولة عذبة تتنفس أريج الريحان وعبق اللبان.. توقظها مداعبة الندى للورود والزهور النضرة .. ويلثم أقدامها موج البحر محملا برغوة ثلجية..تتثاءب بخدر على بساط سندس وتلقي على قامتها بعباءة مطرزة بزهور البيتونيا.. هناك حيث تطل عليك (مطرح) مدينة عريقة بالتجارة - التجارة التي حملت التغيير بهدوء وروية- ،تتأهب لفك خزائن وصناديق التجار من سوق مطرح القديم.. بضائع من كل صنف ونوع جلبها تجار مطرح من سواحل الهند وإفريقيا في رحلة الإياب ،ولابد أن ذهابهم هناك كان محملا بمتنوع الثروات من سواحلها الغنية بالأسماك واللؤلؤ..من هنا أيضا تتمتع المرأة في مسقط بحضور بهي ورزين.. ترف من غير بذخ .. حضور واعي من دون حذلقة .. و البيوت في مسقط حكاية وحدها..لا بيت يشبه الآخر.. إنما يجمع بينها نسق معماري يعلن عن هوية ذات خصوصية ندر أن نجدها في عواصم العالم.. ليس هناك ناطحات سحاب .. فالفضاء يملكه الجميع.. ولم تغير وجهها إرضاء للعصرنة.. لذلك يقبل عليها السياح.. لأن لها لونها ومذاقها الخاص الذي لا يشبه أحد.... الأبواب هناك مسبوغة بالجمال.. كنت كمن يتجول في معرض فن تشكيلي، كل باب لوحة.. وكل شرفة منحوتة مختلفة.. البيوت على علاقة حميمية ببعضها..الضواحي قريبة تدفئ احداها ،حتى الدوائر الرسمية لم تقصى نفسها عن تلك الروح،إذ كيف للمواطن أو الزائر والمسافر أن ينهي إجراءات معاملاته أيا كانت نوعها في مكان واحد إلا في هذه المدينة .. في مسقط جميع الدوائر الحكومية.. السفارات.. الوزارات .. حتى الجمعيات والروابط ... في ضواحي متقاربة.. وتبدو المدينة في كليتها مثل سيدة عصرية.. الشوارع مرسومة بعناية.. والحدائق منسقة بذوق فنان،كل واحدة كأنها حديقة ومتحف في آن..لم تكن (الجهنمية) كما يطلق عليها العمانيون تشبه ما نعرفه عنها.. هنا لا تُرى منها إلا زهور خمرية وبيضاء وبرتقالية.. في تجربة جميلة هناك، رافقت صديقتي في زيارة إلى بيت والدتها في السيب.. في الطريق إلى السيب.. بدت حواف ثوب مسقط مطرزة بألوان زاهية.. شيلات مزركشة مفروشة على مد النظر.. تتوسط الرصيف العريض أشجار تحجب وهج شمس مسقط الحارة عن رؤوس المارة... ربما جاء تصميم الطاقية (الكمة) .. بحيث لا تلتصق بالرأس ليبقي مساحة يتنفس منها الهواء.. وعندما وصلنا،استقبلتني بجلاء عتق الروح المعمارية،وأصالة العائلة العمانية.. بيت عماني مشغول من جريد وسعف النخيل مقام في الحديقة إلى جوار الفيلا .. كما وصفه لي الصديق محمد بن سيف الرحبي في اليوم الأول لي في مسقط.. يميز البيت العماني الصيفي شقوق صغيرة في نسيج البيت تسمح بتسلل الهواء وتظلل البيت أعواد سعف غليظة تقي من حرارة الشمس اللاهبة.. الجميع هنا في خدمة راحة الأم.. لا أحد يتخلف عن تناول طعام الغذاء يوم الجمعة.. إنه يوم الأم تصطف أطباق الحلوى والقهوة العربية والشاي بالحليب.. غرفت صديقتي من عجينة بنية مفرودة على طبق كبير: إنها " عفوسة" مزيج من الرطب المهروسة مع الطحين المحمص بالزبد.. طبق أمي الخاص..مذاق عماني بحت .. مزيج من نخيل الشرقية وقمح خصب والجبل الخضر.. .... كل ما يتصل بالفنون من لوحات ونحاسيات .. صنادبق خشبية .. وفضيات.. سجاجيد ومساند مطرزة.. موجود هنا في فيللا الفنانة بدرية.. لم أصدق كيف انتشلت بدرية وصديقاتها كل هذه التحف واللوحات من الطين الذي خلفه جونو في منزلها وحديقتها.. أينما ذهبت.. تتفحص في النباتات والأشجار إلى أن تجد فسيلة أو بذور.. تضمها في منديل إلى حقيبتها اليدوية.. وما أن تصل الحديقة حتى تسارع إلى غرسها في حديقتها.. أوركيدا من تايلاند مغروسة تحت إبط جريد النخلة.. مقطع مبتور من شجرة ملقى في شارع منسي حملته كما تحمل كنزا وأصبح يتصدر أحد أركان حديقتها.... كنت أظن أن اهتمام بدرية بحديقة المنزل والعائلة لا يمنحها الوقت لعمل آخر.. وكان النقيض،ففي جولة صباحية رافقت بدرية إلى مشغلها.. فيللا صغيرة.. تضم رسومات وتصاميم لعباءات وأثواب وشيلات.. عقود وخواتم وأقراط.. تنشغل بصياغتها بما يتبقى لها من وقت تقضيه بين البيت والأسرة والحديقة.... في غاليري بدرية السويد كل مشغولات وفنون الخليج العربي وبلاد الهند.. مقاعد مذهبة بألوان مبهجة .. وستائر من كل نوع ولون لإعداد كوشة العروس.. أذهلتني بدرية ابنة مسقط العمانية.. كما أذهلت نيكولاس الإغريقي الذي ارتحل عن بلاده منذ 26 عاما لتغدو بدرية وعُمان موطنه وموطن أطفالهما أنس وأنّا وآدم.. : لم أتوقع أن يكون لي هذا العدد من الأصدقاء حين استلمت عملي هنا في مسقط.. لدي أصدقاء واجد.. ولمسقط ميزات محببة لدي،منها اللغة الجميلة والتهذيب والذوق البالغ الذي يميز أبناء عمان..أصبحت الآن أتحدث العربية بشكل جيد .. في الأردن وفي دبي لم أتعلم العربية .. الجميع هناك يحدثونك بالإنجليزية.. هنا لا أتحدث الفرنسية إلا مع أعضاء السفارة فقط..! يقول تيري الدانا مدير المركز الثقافي الفرنسي العماني في مسقط..: حين ولد ابننا "مدين – يان" اتفقت وزوجتي كاتيا التل العربية الأردنية أن يتحدث كل منا معه بلغته الأم.. هو الآن يتحدث العربية كأحد أبناءها وكذلك الفرنسية كما يتقن الإنجليزية التي تعلمها في المدرسة ويستخدمها مع من لا يتقن سواها..! تعمل كاتيا الآن على الإعداد لمعرضها في فن النحت في إبريل وسترعاه كل من السفارة الفرنسية والأردنية في سلطنة عمان. وللعلم فإن عمان هو البلد العربي الوحيد الذي يتشارك مع المركز الثقافي الفرنسي من خلال وزارة التربية والتعليم ماديا وعمليا.. من حيث النفقات والبرامج والنشاطات.. تنظر كاتيا بخوف إلى اليوم الذي سوف يغادرون به عمان: لا أعرف كيف سأتمكن من ترك عٌمان.. أشعر كما لو أنني سأترك قطعة مني.. صديقاتي العمانيات كما لو أنهن قريباتي وأهلي.. الحياة في مسقط بشكل خاص وعمان بشكل عام ممتعة ومريحة.. الناس هنا محبون ودودين أيا كان موقع الواحد منهم ..!…. وفي تجربة أخرى،دعتني صديقة من العذيبة إلى جلسة نسائية في بيت عماني على مرتفع القرم.. غلب على الجلسة الحديث عن الهموم العامة وحتى الخاصة.. ولم تخلو من قفشات محببة من فضيلة الصحفية ذات الحضور البهي.. والتي أعدت المكان بحميمية في منزلها العابق بأريج شجيرات الياسمين وشدو أم كلثوم .. أضفى حضور صديقات من عدن والبحرين والمغرب والسعودية وأيضا من فنزويلا طقسا إنسانيا خالصا.. ساهمت سعاد ولبنى و زليخة ومنى و (وليم) وهذا/ اسم تسمى به الإناث في عمان وليس غربيا/ في شرح مكونات المذاقات العمانية التي حفلت بها مائدة فضيلة.. قبل انتصاف الليل ابتدأت النساء في الاستعداد للمغادرة .. فغدا يوم عمل لدى الجميع.. بعد أن توقفت عن العمل في الصحافة رغم أنها لم تتوقف عن إحساسها الصحفي ..آثرت فضيلة العمل الخاص لتصميم العباءات والشيلات..وتلتقط من هنا وهناك مواضيع لمقالاتها الصحفية.. على شاطئ القرم أقامت هيلدا الألمانية عالمها الجديد في فيللا الشمس.. تبدو هيلدا مستقرة ومنسجمة مع حياتها الجديدة في البيت الكبير تستقبل صديقاتها العمانيات والمقيمات في عمان من مختلف أنحاء العالم.. أعدت البيت ليكون نزلا للسياح والزوار الذين يميلون إلى البيتوتية..حتى في ترحالهم.. على الجدران علقت هيلدا لوحات صورت أبواب البيوت العمانية.. وشكلت مجموعة من الكمة لوحة على جدار البهو..تستمع في طهي الطعام مستعينة بطاهيات حذقات لتجهيز أطعمة تتناسب وأمزجة النزلاء.. .... اصطحبتني سعاد إلى حدائق وساحة الديوان السلطاني.. رغم الجمال الباهر.. فقد أذهلني أن يتاح الاستمتاع في هذه المساحات الشاسعة الوارفة.. كنت أصغي إلى همس تسلل عن كل من قلعة الجلالي والميراني الرابضتين على رؤوس الجبال الصارمة ترويان كيف تمكنت عمان من السيطرة على البحر وحراسة بواباتها الثلاث لمئات السنين.. ... لابد أن لكل مدينة أبوابا حضارية لايلجها إلا من يدرك سر المدن.. مفتاح أي مدينة هو المرأة ،والمرأة في عمان ذات هيبة وجمال وكذلك مدينة مسقط ،وأدل على ذلك مرة اخرى من الأبواب ونسق البيوت.. تبدو أبواب البيوت والحدائق،واسعة وأنيقة ومشغولة بزخرف دقيق..لا تفارق الابتسامة وجهها .. ولا تقع عينيك إلا على ما يسر فيها.. العمارة أنيقة ومنسجمة مع بعضها ومع المكان.. فلا تشويه أو مبالغة في المعمار على شواطئها أو جبالها.. الشوارع نظيفة ومزدانة بالأشجار والأزاهير.. .. ولكل مدينة إيقاع خاص بها أيضا.. هناك مدن تعاني من تسارع في دقات القلب وارتفاع الضغط والكولسترول.. وأخرى تعاني من قصور في القلب وهبوط في الضغط.. مدينتين لم ألمح عليهما أعراض الأمراض العصرية.. مسقط في جنوب جزيرة العرب وفلورنسا شمال إيطاليا.. مدينتين احتفظت كل منهما بهويتها وروحها وبهائها.. .. لتبقى مدينة مسقط وسائر المدن العمانية،مساحة للروح نستمد منها ذائقتنا البصرية والسمعية والجمالية.. مسقط / شباط 2008-02-20
تموز 2003
في اتصال هاتفي سألني أدونيس المرور على الفندق ومرافقته إلى بيت الشعر، لحضور أولى الأمسيات الشعرية في مهرجان جرش 2003 أجبت يومها: أنا أذهب إلى هناك في سيارة أجرة..ليس عندي سيارة خاصة.رد من فوره: بروح معك في التاكسي! في الطريق، قلت للسائق: نحن ذاهبان إلى بيت الشعر الأردني في جبل الجوفة ؛ قبل أن أتم وصفي للطريق قاطعني السائق بقوله: أليس هو ذاك القصر الصغير الذي يقع فوق المدرج الروماني ، أعرفه، لم أزره إنما كلما مررت من آرمة بنية اللون كتب عليها بيت الشعر الأردني في وسط البلد أتمنى لو يتاح لي زيارته.. فأنا أكتب الشعر..هنا تحمس أدونيس الشاعر الكبير، الذي كان قد أعلن في اليوم السابق افتتاح مهرجان الشعر لمهرجان جرش 2003 بقصيدته الشهيرة ( من أجل قبر في نيويورك) ..: وماذا تكتب من الشعر هات أسمعنا من شعرك..اكتسى وجه السائق بالحبور وبدأ يقرأ مما حفظ من شعره.. أثناء الطريق كنت أشير إلى شوارع المدينة بأسمائها: هذا كشك أبو علي وهذه مكتبة أمانة العاصمة، وهنا كان نهر صغير تحيط به البساتين، تم سقفه بعد أن نضبت مياهه.. وفي هذه الساحة تم هدم أقدم فندق في عمان العاصمة.. حكيت له حكاية عبد الرحمن منيف حين حضر إلى عمان بعد غياب أربعون عاما، وفيما انحنى السائق بالسيارة لاجتياز بوابة فندق فيلادلفيا وادي صقرة آنذاك.. اعترضه منيف قائلا: فيلادلفيا ليس هنا إنه على ضفة سيل عمان مقابل المدرج الروماني.. قهقه السائق وسأل: منذ متى لم تزر عمان يا أستاذ؟كنت أستعد لأقف في وسط ساحة بيت الشعر لأخبر أدونيس عن مدرستي التي حل بها بيت الشعر الأردني ولأقول، هنا كنت أقف كل يوم لأنشد مع بنات مدرسة الأميرة هيا : حيي يا لطف الملاح فضل تعليم البنات.. واحيا يا نور الصلاح في حياة المرشدات..غير أن التفاف رواد الأمسية الشعرية من ضيوف كل من السفارة الفرنسية والإيطالية ومن الشعراء العرب والأجانب حول أدونيس، لم يتح لي بالتعريف بمدرستي وببيت الشعر الذي أتاح لي استعادة طفولتي كلما سنحت لي زيارته بين الحين والآخر، قبل انتهاء الأمسية همس أدونيس في أنه يرغب بالعودة في تاكسي أجرة غير أن الصديق مدير بيت الشعر الأردني الشاعر حبيب الزيودي أوصى سائقه بحملنا من عمان البلد إلى عمان المدينة.. وبدت لنا أنوار القصر الأموي في جبل القلعة تختفي رويدا رويدا أثناء هبوط السيارة من بيت الشعر في جبل الجوفة إلى وسط البلد. ….. مهرجان جرش والشعر في تموز.. بيوت في جبل عمان وأم أذينة، وحديقة باذخة بأشجار وارفة كانت ملاعب للأطفال كلها أصبحت أثرا بعد عين.... وخبر جاء في مقالة الصديق سعود قبيلات عن نية الأمانة لنقل الشعر من قلب عمان إلى مكان لم يحدد بعد ..والشيء بالشيء يذكر***
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)