السبت، 18 أبريل 2009

رم .. جبال في كبد السماء

سكون غامض يلف فضاء لانهائي لمدينة مسحورة لم تفك طلاسمها بعد…
بنايات فارهة متعالية موشاة بنحت فريد.. تتباين في شرفاتها ومقصوراتها فن عمارة ونحت لا يضاهى.
مدرجات مطعمة بأحجار كريمة ملونة..
جداريات ولوحات تشكيلية منتقاة..
صحراء سرابها مثل شال حرير أضاعته حورية من حوريات البحر نسيجه نور استل من شعاع الشمس والقمر…
كثبان رملية تثير في النفس رغبة الغوص في تلالها الوردية…
كشهقة وليد طالع للتو من نفق العبور للحياة… يجد القادم نفسه إلى وادي رم… يغمره ضوء شمس لا يملك تجنبه.. وتنهض أمامه جبال ذات مهابة لن يرتد عنها البصر.
كتلا هائلة من البناء الشامخ المتصل أحيانا كعمارة يمنية موغلة في القدم، والمنفصل في بعض الأحيان كناطحة سحاب عصرية.. تمتد بينها صحراء ذهبية شاسعة الاتساع توشك أن تفضي إلى نهاية الأرض.. امتداد سرمدي.. وأفق مترامي تعلوه جبال شاهقات.
نقوش ومقصورات… شرفات ودهاليز برسومات متباينة الخطوط… تكاوين ومنحوتات حملت تواقيع العصور القديمة.
مدينة ليست كالمدن تبعث في النفس شهية البحث عن لغز الحياة والموت .. البعث والخلود..
جبال تشكلت من رمال وحصى سفتها الريح من اليابسة للماء، ترسبت صخورا رسوبية بتكوينات امتلأت بتجاويف ومنحنيات شقتها الأمواج وكائنات بحرية فيما مضى.. هي الآن مأوى وملاذ يتقي بها الطير والحيوان نار شمس حارقة ولسع صحراء قارص وأذى الاقتناص.
خداع بصري وسراب مضلل واحساس بالضآلة، يصيب المرء لدى اجتيازه وادي رم لأول مرة.
جبال تناطح السماء.. صحراء ممعنة في الاتساع.. وكثبان يشتعل فيها الوردي..
حالة من الخشوع لهيبة السكون وجلال المشهد…
(وحسمى أرض ببلاد الشام يعرفها من رآها من حيث يراها لأنها لا مثيل لها في الدنيا، ومن جبال حسمى جبل يعرف باسم "إرم "
…وفي أخبار المتنبي وحكاية مسيره من مصر إلى العراق قال: حسمى أرض طيبة .. تنبت جميع النبات، مملوءة جبالا في كبد السماء.)
في النهار.. سماء حين تصفو زرقتها يتسلل ضياءها للتجاويف الجبلية… وتتدلى في الليل عناقيد ضوء… وتتسابق شهب، كل يبحث عن نجمته..وتبدو القمم الجبلية.. كغيوم داكنة في سماء الوادي.
نسر يطارد سرب حمام بري.. تنفلت منه لشقوق الجبال..فتهرول سحلية.. وينتصب النسر على حافة جرف يستجمع ثقته ليواصل التحليق مجددا.
في البدء كان الماء.. وكانت الارض تجد حلولا لبذور النباتات وتكتفي بما تمنحه السماء، تروي به شجيرات الغضا والرتم والتين البري والحبق..
بعض النباتات اختار لنفسه عنوان غير ثابت.. لذا عليها أن تزهر بسرعة قبل أن تحمل الريح بذورها مع الكثبان إلى عنوان آخر….
قطرات من سلسبيل تتسلل من بين تلافيف الجبال.. ما دفع العرب الأنباط لابتناء السدود لحفظ مياه القطارات، مثل سد درج وسد البرة، فيما بعد حذا الرومان حذوهم في بناء سد الرومية وغيره من السدود، حفظت قطرات المياه للسنين العجاف..
ولا يخلو معبد نبطي من حوض اغتسال دلالة على أهمية الاغتسال والطهارة عند العرب الأنباط..
أهمها معبد اللات، وكان قد شيد في عهد الملك "رب إيل الثاني" عام 90-70 ق.م عند نبع الشلالة..
تنتشر أشجار الرتم في الوديان المنخفضة، قد تمكث بذور شجرة الرتم في الأرض ما يزيد عن ثلاثين عام إذ لم يتوفر الماء الكافي لانباتها. أما أشجار التين البري فتلتصق بالسفوح، تصنع للهواة من متسلقي الجبال ظلا يستريحون عنده.
تتباين درجات الحرارة حتى في المسافات القصيرة فتنخفض درجات الحرارة في القمم الشاهقة التي تعلو إلى 1700 م 12 درجة مئوية عنها في المناطق المنخفضة والمفتوحة بالإضافة إلى أن التعرجات العديدة والمعقدة توفر منظومة ذات خصوصية من الظلال والضوء.
تنوع المناخ ما بين الجبل والوادي أدى إلى تنوع النبات، فنبت عرعر ينتمي لمناخ البحر الأبيض المتوسط على بعض سفوح الجبال، فيما انبتت البعض شجر الطلح الاستوائي وغطت نباتات الاقليم السوداني معظم المناطق.
واحتمت نبتات العيصلان وشجيرات الغضا والرمث بالكثبان الرملية لتحتفظ برطوبة تؤمن لها البقاء.

*****************

لم تغره مدن عصرية.. إنما أغرته امتيازات رم وعاش فرادة المكان كما عاش أجداده من قبل..
وما زال ساكن رم يتصرف بعفوية ويعتاش مما تؤمنه له الأرض من نبات وطير وماشية.. يشرب من لبن الماعز والناقة ويصنع اللبن والزبد، يأكل الخبز المعد على الحطب.
يميز البدوي العشبة برائحة تنبعث منها حتى وإن احترقت.. وابتكر طبابة خاصة من الأعشاب والمعادن والأحجار الكريمة وأحيانا النار.
النار التي بقيت متقدة تحت دلال القهوة حتى هذه اللحظة..ولم يزل القضاء العشائري سيد الأحكام.
وللبداوة منظومتها الاجتماعية المستنبطة من معطيات الحياة الفريدة للعيش .. فالبدوي بطبعه يعي ضرورة أن لا يهدر الانسان الماء والكلأ.. ويحرص على ماشيته مثلما يحرص على أفراد عائلته.. ويرفض تلبية دعوة وليمة إن أعدت من لحم أنثى ولود.
يعتبر بيت الشعر المصنوع من وبر الإبل أو شعر الماعز السكن الملائم في صحراء رم.. حيث يتيح التحكم في تبديل أو إغلاق الفتحات بما يتناسب مع حركة الشمس والريح غير المستقرة في غالب الأحيان.
وحين اكتشف ابن المنطقة فرادة المكان الذي يسكنه.. برع في الترويج له.. فهو يعرف كل حبة رمل في الجبل والوادي كما يعرف خطوط راحة يده.. ومهر في تسلق الجبال بحثا عن عشبة أو دابة شاردة.. كما تعرف على كل ما خطته الحضارات القديمة من كتابات ثمودية وعربية نبطية وزخارف تحكي للقادمين تاريخ القبائل التي استوطنت أو عبرت الوادي.
ومن المعروف أن قبيلة عنزة القادمة من بلاد اليمن، استوطنت الأرض التي يطلق عليها "حسمى" والواقعة حاليا شمال المملكة العربية السعودية وجنوب المملكة الأردنية الهاشمية.. إنها بوابة التجارة بين بلاد الشام والجزيرة العربية وبوابة الحجيج فيما بعد..
شهدت أرض حسمى حضارة دولة الأنباط وقبل ذلك الثموديون ومن ثم الأغريق والرومان.. وشق الخط الحديدي الحجازي رمالها في القرن الماضي.. وصفها لورنس أجمل وصف في كتابه المسمى باسم جبل في رم "أعمدة الحكم السبعة" كما أطلق البدو على عين " أم عينية" اسم لورنس حيث كان يغتسل.

**********

هنا قد يظن القادم إلى وادي رم أن ما يراه من أعلام شاهقات سرابا… واللون في الوادي متغير، فالطبيعة سيدة الموقف…
في الليل تشع المدينة الخرافية بما يمنحها القمر والنجوم من خيوط فضية ورمادية مائلة للزرقة وتبدو الجبال مثل غيوم وصلت بين الأرض والسماء… ويمكن لمن يحب أن يستضيء بالنار أن يجد مما هو ملقى في الطريق من أغصان شجر الغضا، كانت الريح قد ذرته، نارا تدفيء وتطهو وتضيء وتطيل سهره أيضا…
عند كل شروق.. تلتمع قمم الجبال مشعة بضوء الشمس… وقليلا قليلا تضاء الممرات والدهاليز بألوان خلابة تعكس اللون الوردي تارة واللون البنفسجي تارة أخرى…. وتشق لها طريقا مضيئا على صفحات الرمل.. فتشع من الوادي الألوان.. تتمازج مثل شال نسج بخيوط من حرير.. وكلما اشتعلت الشمس التهبت الألوان.. وبدت الكثبان مثل جسد من رخام وردي.
وللجبال الوردية كثبان وردية وتنث الجبال البيضاء رمالا تشع بياضا كلما توهجت الشمس…
وتتدرج ألوان الشفق من أزرق رمادي يقترب من الفضي في بعض ساعات النهار، ومن وردي لحمرة حارة في لحظات الغروب.
أما إذا تصادف قدوم الزائر في الليل… ولم يكن القمر بدرا…
فستبدو مدينة "رم" كمدينة أطفأت أنوارها…..
تشع المدينة الخرافية نجوما لن يشهد مثلها في أي بقعة من العالم.
وحين يطل القمر على رم يحمل الوادي اسم وادي القمر بجدارة… وتبدو الجبال مثل غيوم تصل بين الأرض والسماء…

يتيح صفاء السماء في الليل ودوران القمر بغيابه وإطلالته على الوادي للمهتمين بالفلك والمغرمين بدراسة حركة النجوم والكواكب، الجو الملائم للبحث عن المزيد من الصفاء والسكينة والسكون، لن تتهيأ إلا هنا.
إنها مساحة للروح والتأمل يتميز بها وادي رم قد يدفع المرء في الغالب، إلى أن يعيد حساباته وأولوياته وربما يجد حلولا لمشكلاته..
وكلما أوغل في الوادي واستشعر الإنسان الهواء المصفى، كلما اقتربت النفس من الروح.. واستدرج إلى حالة من التأمل تصغر أمامها الأشياء…
***********

الرمل صحيفة البدوي الصباحية… فيها يقرأ نقوش خطتها أقدام العابرين من خف جمل إلى قوائم طيور وسحالي.. مما أكسبه مهارة اقتفاء الأثر.. ومكنته السماء الصافية من اقتفاء حركة النجوم والرياح.. للاستدلال على الطرق ومهاب الريح… لغايات التجارة.

حين يهب إعصار خماسيني تبدو الريح مثل مارد خفي يقتحم الصحراء كموج هائج يحمل الرمال من بقعة لأخرى… تتلاحق أمواج الرمل واحدة تلو الأخرى وتتصاعد مثل أعمدة من دخان وتحفر الريح في الجبال… فلطالما كانت الريح واحد من أهم عوامل التغيير، سواء ما كان عاصفا ومزمجرا أو ما كان منها نسيما عليلا.. فبها تتغير صفحة الجبل ليبدو بعضها مستديرا حنونا بانحناءاته والبعض الآخر قاسيا صلدا ببروزاته، فيما تتشكل زخارف ونقوش ومنمنمات على جبال كانت الرياح بها رفيقة…

تتزود الصحراء برمال حتتها وسفتها الرياح من الجبال، فتتشكل الكثبان حسبما تلقى المكان، بعضها مخروطي كهرم يغري بالتزلج، والبعض الآخر مستدير كجرن ماء… إنها الريح تجتاح الأماكن المفتوحة بكثافة وتتسلل إذا لم يكن لها منافذ… إلا أنها لابد لها أن تغير من طبيعة الأشياء.

وتحمل الريح معها بذور النباتات.. من الصحراء إلى الجبال ومن الجبال إلى الصحراء، فتعلق شجرة بسفح جبل وتزهر الكثبان في الربيع…
وتجد الروح المغامرة في رم الجبل والصحراء، الأفق الذي يتسع للوثب والقفز والتسلق مثلما يتسع للسير والتأمل في النبات والحيوان، والإصغاء لصوت السكون والصدى.

وسينصت الزائر لجبل أم عشرين ما يروى عن فتية عشرون نسج تحديهم حكاية كانت وراء إطلاق الاسم على الجبل..
وستملأه الدهشة من بروج مشيدة كبرج بردة الكبير وأم فروث الصغير… حيث يصعد "صبّاح" وصحبه من المغامرين إلى عنان السماء..
تهب الرياح.. تعصف بالشجر وتنكث الأرض.. يصفر سيق ويتردد في جنبات الوادي صدى نداءات الرعاة وحداء إبل وثغاء ماعز… وتحمل الرياح رائحة خبز طازج وحطب عطري مشتعل..
تطير بذور التين البري والرتم والحرجل من سفح لوادي لتغيب بين ثنيات التراب تنتظر تسلل الماء..

غالبا ما يغادر الزائر "لرم" بمزاج مختلف عما كان عليه قبل اجتيازه الوادي.. وربما تمنحه هذ التجربة الفريدة قدرا من الشجاعة لتعديل أو تغيير أولوياته.. فالتأمل سيستدرج الزائر الى حالة تمكنه من الانصات لصوت السكون والاستغراق في الروحانيات… إنها مساحة للروح والخشوع لجلال وسحر المشهد الذي جسدته عناصر الطبيعة الأربعة في هذه المدينة الخرافية الغامضة والمتبدلة…
ويبقى الغموض الذي يلف المكان مبعث دهشة الانسان كلما قدم إلى وادي رم !!!!!
ربيعة الناصر
22 أيار 2004
نشرت في مجلة أفكار الصادرة عن وزارة الثقافة الأردنية
العدد 218

ليست هناك تعليقات: