السبت، 18 أبريل 2009

أسفار


أشارت بيدها بعد أن فتحت باب الشقة ضاحكة: منـزلك لأسبوعين فقط! من مدٍخل الشٍقةٍ.. تمكنت من التعرف على البيت كله!!! على اليسار غرفة النوم.. ومن اليمين تبين لها المطبخ.. موقد غاز بضعة أكواب.. ملاعق على الجدار..
أوجعتها ذراعاها ! هنا صالة الجلوس، هذا كل البيت!
تذكرت حديث المغتربين حول الطقس، استشعرت الدبق لا شك أن الحمام مرفق بغرفة النوم .
راودتها أُمنية ماكرة! ، تمّنت لو لم يكن هناك من ينتظر مجيئها! البيت..؟ لم تحلم بأكثر من هذه المساحة، على أن تكون لها وحدها، تغلقها على نفسها متى تريد وتشرعها متى شاءت ايضا . اتسعت الردهة.. مشجب تراكمت عليه معاطف شتوية يتضح أنها لسيدة شابة.. تعربش عليها معطف صغير المقاس! عاودها الألم في الذراعين.. وضعت أمتعتها على الأرض لتمعن في التعرف على مضيفيها . استرخت ذراعاها وابتسمت ، تلهفها للانفراد والاختلاء بروحها جعلها تسهوعن التخفف من حقائبها.
- أتركك الآن لترتبي ملابسك وتغتسلي سأعود إليك صباحا لتناول القهوة. سمعت صوت صديقتها، أعقبه صوت صفق الباب . اجتازت الصالة… على الجدار المواجه لباب المطبخ ، مكتبة برفوف خشبية وقوائم معدنية، مكتظة بالكتب، إنها روايات من الصنف المحبب لدى الصبايا اليافعات.. باللغة الإنجليزية، امام الكتب المصطفة ، توزعت مقتنيات عديدة، تشي بالأماكن التي زارتها المضيفة، تلك من الصين وهذه من الهند وغيرها ربما من كينيا ! مقعدان طويلان مجللان بمفارش محاكة يدويا، يبدو أنها جلبتها من إحدى دول أوروبا الشرقية ! تلفاز وفيديو وعدة القنوات الفضائية ، أشرطة تسجيل إلى جوار المسجل، أشرطة فيديو، إسطوانات ممغنطة.. نبتة لبلاب اشتبكت بحافة الستارة ستسقيها في الصباح/ لقد نال منها العطش/يبدو ذلك من جفاف تربتها!
امتدت يدها لفتح الستائر، أزالت مشبك الشعر النسائي عنها . قبل أن تطل من النافذة، التقت عيناها بوجه امرأة بملامح افريقية ، وكأنها تقف منذ عصور في انتظار من يخلع المشبك . فأعادت المشبك إلى وضعه الأول!
كم تشتاق إلى خلوة تكون فيها مع نفسها ، تتوق لعزلة تحتاج فيها أن تتحاور مع حالها؟
إمتلأ المكان بعبق قهوة ابتاعتها مساء أمس. تحمل قهوتها أّنى ارتحلت ! أدارت التلفاز وبدأت البحث في القنوات الفضائية أبقت المؤشر على محطة جديدة قيد الافتتاح تبث أغاني عربية قديمة لعبد الحليم حافظ و ليلى مراد!!!
شموع بأشكال وألوان مختلفة تناثرت على الزوايا وأسطح الأشياء، تذكرت حقائبها، ما زالت مركونة إلى جوار الباب الخارجي للشقة. حقيبتان فقط، واحدة للملابس والثانية أودعت بها أوراقاً وأقلاماً، وكتاباً تتحدث مقالاته عن عُمان ،المكان والناس والزمان، و بعض الخرائط للخليج والجزيرة العربية. ست شمعات اشترتها من محل الأفغاني في جبل اللويبدة، لم تكن تعرف لمن ستهديها، فتحت حقيبة الملابس؛ تناولت شمعة ووَضعتها على رف صفت عليه مجموعة تذكارات للمضيفة التي لم تعرفها، تلك السيدة النمساوية التي أفسحت لها مكانا في بيتها و خزانة ملابسها وستغادر بيتها دون أن تعرف وجهها أو وجه طفلها الصغير(سامي) المشرقي العربي الجذور والمقيم مع والده في شقة أخرى من البناية طيلة رحلة أمه!
على شاطئ البحر المكسور ! تم كسر أمواجه، ليتسنى إضافة مساحة من الأرض لإقامة أسواق تجارية ومطاعم ومقاه. تناولتا إفطاراً لا يختلف مذاق أصنافه عن الإفطار في(ست الشام) في دمشق أو(الترويقة) في عمّان، تصلهما أصوات الدردشات بلغات ولهجات و لكنات متعددة!
عائلة من بلاد الشام وأخرى من مصر.. شابان من الخليج العربي.. أطرف ما في المشهد، أن المستخدمات الأجنبيات يرطن بلهجة العائلة التي يعملن لديها، فيليبينية توبخ الأطفال باللهجة المصرية، وسيرلانكية تدلل وتغنج الصغير بلهجة لبنانية! كل يحكي لغة ولي نعمته!!!
أثناء مرورهما بمحاذاة البازار المقام على شاطئ بحر(أبوظبي) وقريبا من (المارينا مول) حيث كانت وابنتها (الوافدة) الجديدة على الخليج تغادران المقهى .
- ما رأيك أن تلقي نظرة على السوق هنا؟ سألتها وهي تتابع نظراتها الشاردة صوب المغادرين بمشترياته من (المول) الجديد.
توقفت ابنتها عند محل لبيع (الإكسسوارات العصرية).. بدأ الشاب اللبناني يعرض مقتنياته بكل لطف، في الوقت الذي لمحت شابا يرتدي لباسا عرفت منها ملامح بلاد من جنوب جزيرة العرب! اتجهت إليه: اليمن؟ هذه مشغولات يمانيه أليس كذلك؟ عقود وسبحات من العقيق والفضة ومختلف أنواع الأحجار الكريمة، ياقوت وجاد وفيروز سرحت ، لم تعد تلبس العقود منذ مدة .. كلما فكرت بلبس واحد تصدمها صورتها في المرآة تثير دهشتها النساء حين تتجاوز الواحدة منهن الشباب وتستمر في لبس العقود والأقراط،،، انتقت واحدا من العقود سآخذه لابنتي حتى وإن لن تلبسه!.. يكفي أنه مشغول بأيد يمانية، قد يأتي يوم تزور بلادا كنا نلثغ بها أطفالا بلاد اليمن السعيد ؛ ونحن نطوف العالم على خرائط الأطلس!
بعد أن وصلتها تأشيرة الزيارة لدولة الإمارات، اتصلت بالسفارة العمانية وطلبت القسم المسؤول عن منح التأشيرات: أنا مسافرة الى دولة الإمارات. لست ممن يرون في التسوق متعة أرغب في زيارة مسقط ، منذ ما يزيد عن الثلاثين عاما وأنا أتمنى زيارة بلاد اليمن وحين زار ابني عُمان في عمل تطلب منه الإقامة مدة شهر هناك، جاءني مأخوذا مما شاهده من حضور للطبيعة في كل من مسقط وصلالة والجبل الأخضر، إلى أن قال تمنيت لو رافقتني، تذكرتك كثيرا هناك .
لم تمنح تأشيرة ولكنهم أخبروها أن بإمكانها الحصول عليها من مكاتب السفارة في دولة الإمارات .
غادرت مبنى السفارة العمانية في (أبوظبي) المسيجة بغراس الريحان! انطلقت ممتلئة بالأمنيات الدافئة بقضاء رحلة طيبة من القائمين على وسم تأشيرة الزيارة.
من العين إلى البريمي انتظرت طويلا قبل أن يحضر راكب وجهته مسقط، كان عليها أن تأتي مبكرة. الشمس تتوارى خلف الأفق الممتد والقلق يبدو على وجه مضيفيها، ابتسمت مطمئنة إياهم : ليس هناك ما يقلقني.. إلا أن يحاسبني السائق على أجرة السيارة بالكامل، وهذا ما لا أتوقعه ! لو كنت هناك في بلدي لا يمكن أن أجازف بهكذا رحلة، أنا مطمئنة..! وأخيرا حضر شاب وجهته مسقط!
كانت معالم قلعة البريمي أول ملمح شاهدته حين اجتازت الفضاء العماني.. وقفت القلعة شامخة تحمل سمات الأرض من حولها!
تهيأ لها وكأن الأبراج تعتمر عمامة أو. . . هكذا بدت لها . الأرض تمتد ومن البعيد ارتفعت جبال تحرس حضارة الخليج. ما بين التوق واحتباس الدهشة وبين حالة غامضة من الحنين لأماكن كانت تثير وجدا وحنينا لا تدري مبعثهما ربما هو حنين للجذور..
هناك في عمق الجنوب من جزيرة العرب، هو الجنوب. حيث الفراهيدي و المسعودي ، والبحارة الاوائل بحر العرب و خليج عمان، صيادو اللؤلؤ وباعة العطر والبخور وإرث سيف بن ذي يزن وبلقيس.
٭ تسنى لها زيارة واحدة من بلدات الداخل أو الباطنة ، كما يطلق عليها البعض في دبي وعلى (هامش) مهرجان التسوق ، إلتقت (أيوب) النحات والفنان العماني الذي سبق أن التقته في ملتقى النحاتين العرب في مهرجان جرش عام١٩٩٩ .
في شارع الضيافة مرت الفرق الاستعراضية للبلدان المشاركة ، أضاءت الشارع فجأة فتيات يزهين بملابس ملونة اخّضر منها المكان! تبعهن مجموعة من الشباب بثياب ناصعة البياض وعمامات أنيقة تميز بها أبناء عمان!
- هذه الألوان من الملابس وغيرها قل أن تجدها في المدن . ألا ترى معي أنها أجمل وأرق من العباءة السوداء وغطاء الرأس الأسود؟ أذهلتني الألوان الاخضر والبنفسجي والأصفر والبرتقالي.. تميس به قدود النساء في بلدات الداخل وقراها ، فيما تحددت المرأة المدينية باللون الأسود.. أليس التمايز والتعدد في الألوان أكثر إشاعة للفرح والبهجة من وحدة اللون في ملابس المرأة ؟
وما الذي يمنع أن يكون للسدر والاثل أو السرح وألوان الشفق وانعكاسه على سطوح الأشياء..وقعه على قامات النساء، ألا ترى معي أن المرأة العمانية قد تكون ابتكرت زيها لتتخفف من وقع حدة الجبال وقسوتها!
كم يؤلم أن النساء في معظم المدن والقرى في أنحاء الوطن العربي.. خلعت عنها الزي الشعبي المنسجم مع الطبيعة ، والتحفت بالسواد! ألا يدلل ذلك على أن طبيعة الثقافة الشعبية أكثر انسجاما مع معطيات البيئة؟
من المسؤول عن إفساد الذوق لدى مجتمعاتنا ؟ أهو التحضر الزائف الذي أورثنا إياه عصر الحرملك والسلاملك؟
ابتسم ايوب البلوشي وقال في اعتداد محبب:- كيف لو عرفت أن في عمان ما يزيد على خمسين زيا شعبيا ؟
من رقة البحر وجموحه و من شموخ جبل مسندم وقسوته..وما بين وعورة بلدات ومدن الباطنة ورضاب عذب في صلالة ترنو عمان اليوم إلى بحار و شواطىء كانت يوما سيدتها . حتى وإن أغلقت / البيبان/ دونها لحقبة من الزمن !
عُمان بلد يختص بمذاق و نكهة ولون تميزه عن باقي مدن الخليج. عمارة مطرزة بنقوش امتزجت فيها خطوط من سواحل أفريقيا وآسيا، مع ما أبدعته مخيلة فنان كان البحر معلمه الأول.
(السواقة فن و ذوق و أخلاق) شعار مكتوب على شواخص موزعة في أنحاء العاصمة والمدن في بلدها لم تلمح شاخصة واحدة لهذا الشعار في مسقط! إنما لمسته سلوكا حقيقيا هنا في عمان وعلى امتداد الطرق الداخلية والخارجية!
في الطريق إلى مسقط سألت: كم بقي لنصل برج الصحوة؟
بضع دقائق! أجاب السائق.
فأين هو البحر إذن؟ أليست مسقط على البحر؟ تساءلت متلفتة.
- مسقط ، البحر بروحها ! أجابها الشاعر، عفوا بل السائق !!!!!
فردت خارطة الوطن، استحضرت تضاريس عمان مدينة مسقط تحتضن البحر!
قدمت للموظف في مطار (أبو ظبي) جواز السفر والتذكرة بعد أن ألقت بالحقائب على القبان. لديك ما يقارب ثمانية كيلوات زيادة عن الوزن المسموح به يا سيدتي! التفتت إلى أمتعتها، هذه حقيبة الملابس كما أتت بها من مطارعمان، فقط شال! حاكته نساء من صلالة وتلقته هدية من صديق مقيم هناك! والثانية فيها رزمة أوراق وكتابين و أقلام، رافقتها من بيتها في عمان ، إلا إذا كانت اللحظات/حين كانت تغافل الوقت والأصدقاء/ لترصدها في مفكرتها… قد أضافت بعض الوزن .
بخفة التقطت الحقيبة القماشية، بالكاد تزن مئة غرام فارغة، احتضنت الحقيبة.
هز الموظف رأسه موافقا ، وهكذا كان لزاما عليها أن تحمل مقتنياتها و حصيلة تسوقها بيدها من مكان إلى آخر!
تتخيل الأسرة تلتف حولها منتظرة هدايا الخليج !!! حق صغير من عطرعمان وآخر يدعى صلالة.. حفنة ياسمين اختزلت حدائق مسقط ابتاعتها من محال سوق مطرح القديم… مبخرتان فخاريتان بلون تراب صحار وبركاء..وحقان من بخور عماني…
سيفوح في البيت عبق الصندل والسنديان.. وستودع سلة الصياد المشغولة بسعف النخل، أوراق وصور وكتيبات لملمتها من أمكنة مختلفة.
عند نهاية شارع الشاطئ في القرم… أوقفا السيارة… سارا باتجاه البحر، توقفت/مقهى سهل حوران/نحمل أسماءنا أنى توجهنا !
توقعت أن أسمع ( بعدك ع بالي يا سهل حوران شرشف قصب و مطرز بنيسان) ابتسم صاحب المقهى مرحبا ، فيما هو يشير للنادل لإفساح مكان للزبائن الجدد: أنا من الجزيرة شمال سوريا ، صاحب المقهى الأول كان من حوران!
قبيل مغادرتها مدينة مسقط ، راق لها أن تطل على شارع الوادي الكبير ، توقفت عند دوار السفينة ، تلك التي أراد بها شبيبة عمانيون أن يثبتوا لأنفسهم أولا ومن ثم للعالم، عظمة البحارة الاوائل وريادتهم ! ..
وأثناء توجهها إلى محطة (روي): ماذا لو احتسينا القهوة معا؟ غصت بالكلمات فأومأت موافقة.
(كنت سعيدا بمرافقتك، خاصة حين أجدني ممسكا بيدك أثناء عبورنا الشارع، حيث أراك دوما تندفعين دون اكتراث للسيارات التي قد تداهمك، أتمنى لو أكون قريبا منك وانت تعبرين الشارع) ارتعش فنجان القهوة وتدفق فيض من الألم والحنين أهو التوق للاستئناس والرفقة ننشدهما حين يقبل علينا صقيع الشيخوخة.
في كل مرة كان يدور الحديث حول كيفية ضياع الأطفال عن أمهاتهم، كانت أمها تروي كيف ضيعتها مرة في أسواق دمشق القديمة والثانية في بلدة (المفرق) في الأردن، كانت تتملص دائماً ممن يقبض على يدها.
على الطريق العام مقهى في (سناو) سأل النادل :- أحمر أم أبيض؟ ابتسمت : أحمر .
الشاي ا لأبيض هو ما مزج بالحليب .
اتخذت المقعد الأمامي.. بدأت مشاهد (روي) تتسرب من أمامها أخذت السيارة المسرب اليمين وارتفعت شاخصة كتب عليها (صحار).
لم تزر صحار، ولا صلالة ،لكنها أخذت على نفسها وعدا أن يكون ذلك في القريب، وربما تتابع المسير إلى بلاد اليمن أيضا .
٭ بقلبها أطلت على الحارات القديمة في جبل القلعة (ربة عمون) ، المغيب تاريخها إلا فيما ورد عنها.. في (العهد القديم)! تهبط درج الكلحة لسوق البشارات، منتصف آذار تزدهي تلال مدينة عمّان بالنوار ، من شقوق الحجارة وبين ثنايا الأدراج، هنالك عشبة او نبتة مزهرة اكتشفت فضاء جديدا بعد أن قبعت زمنا تنتظرتسلل مياه الأمطار اليها ، فيما الأشجار منشغلة بغزل ثياب جديدة .
ثلاثة آلاف من الكيلومترات تفصل مدينتها عن مدينة مطرح ، ففيم فاض بها الوجد حين دلفت سوق مطرح القديم.. تفتنها الأسواق القديمة..
اجتازت الشارع متجهة إلى الكورنيش…
ارتضت تلبية دعوة ابنتها التي رغبت في تجربة العمل في الخليج.. بدأت تلح عليها في الحضور.كانت في حاجة للتحرر من حالة تلبستها.. وجدت نفسها مستغرقة في قراءة (تيسير سبول).
لم تكن قراءة لتزجية الفراغ، إنما محاولة لقراءته ، قراءة مختلفة، ضمن مشروع سينمائي برؤية جديدة .
سافرت مع (تيسير سبول) ليلا ونهارا.. روايته.. أشعاره.. مقالاته.. رسائله الخاصة لأصدقائه.. جمعتها من الأدراج المقفلة.. نفضت عنها الغبار.. كانت تقرأ الواحدة منها بتأن.. مبتسمة حينا ومقطبة في بعض الأحيان وآسفة في معظم الأحيان لأنه لم يتح لها التعرف عليه في حياته!
بحثت بين الحروف والكلمات، وبين ما قيل ومالم يقال عن مبعث أحزانه.. وعن ذلك الجرح الغائر المفتوح.. هل لمح وجوم القابلة فصرخ: أن لا جدوى ؟؟؟
التقت زوجته وزملاءه وأصدقاءه رفاق المدرسة والجامعة والمدينة.
هل لي أن أقول أني أحببت زوجك بعد قراءتي الجديدة لحياته وكتاباته! قالت للدكتورة مي اليتيم زوجة (تيسير سبول) .

ليست هناك تعليقات: