السبت، 18 أبريل 2009

تلك أمي..

رفضت أمي أن يعلمني أبي..ك
وقد كان أبي معلماً حازماً
أنا من سيعلمها القراءة والكتابة..
ونظرت في وجه أبي تنتظر..
كنت على مقربة منهما..
وقبل أن نستفيق من دهشتنا
تابعت الأم: ستعطيني كل يوم درسا في القراءة والكتابة والحساب.. وسأدرسها إياه فيما بعد….
بدا أكثر رفقا أثناء تدريسها مما كانه مع أخواتي..
أراها الآن تتهجأ الحروف من وراءه وتترك ليده تضم كفها لرسم الحرف.. هامساً بدفء حميمي: من اليمين إلى اليسار.. من اليمين إلى اليسار..هكذا..عفاك
وأصغي لشجي صوتها تلقنني
أ أسد ب بقرة
يأتينى الآن شجى صوتها مع إيقاع دروزة ماكينة الخياطة.. تدندن على بلد المحبوب وديني
تلفني بجسدها
وتمسك بيدي لأخط الحرف
تهمس برفق.. من اليمين إلى اليسار.. من اليمين إلى اليسار.. هكذا.. عفاك
أمي لم تدخل مدارس.. ولم تتلقى أي تعليم..لا أذكر أن أحداً منا سخر أو استخف بتعليمها.
دأبت كل مساء على تدريسي..
وما أن أنهيت السنة الأولى في المدرسة حتى كنت أقرأ وأكتب كل ما يقع تحت يدي.. ..
عرف عنها طاقة ورغبة في الاكتشاف والتجريب والعمل قل أن يمتلكها إنسان واحد.. كانت عدة نساء في امرأة واحدة
زوجة مليحة وشريكة متفانية..
أم رؤوم ومعلمة مخلصة لعملها.
بعد رحيل والدي..رفضت كل دعواتنا بمغادرة بيتها..
سنقلق عليك
لن أغلق بيت أبوكم فقد أوصاني أن لا أغلق بيت بناته..
احتفظ في رغبته بأن يكون له ولد يحمل اسمه في أعماقه..ولم يصدر عنه يوما ما يؤذي، سواء لأمي أو لنا..بل كان وراء أن تدرس أختي الصغرى الفنون الجميلة حين رآها ترسم على جدران البيت والأبواب ولا أذكر أنه نهاها عن الخربشة على الجدران
لم يفارقه الكتاب..
وأضفى على حياتي فرح بإسمٍ يبعث البهجة لي ولكل من ناداني..
كنت أمازح أمي دوماً.. إلا أبي لم يتحرر من العثمانيين
وبكت معه يوم رحيل عبد الناصر..
أثناء عرض العمل التلفزيوني "إخوة التراب" اتصل بها ابني معتذرا وقد كان يؤلف موسيقى العمل
:أنت جدتي التي ساهمت في موسيقاي.. لكن لا أملك رفض عمل أعرف أني أملك أكثر من غيري ما يبقيك أنت وجدي في ذاكرتي وربما أكثر من ذلك
قبل وفاتها بسنة وبعد أن انتهت من صنع دبس الرمان، شكت من آلام في ظهرها وذهبت لزيارة طبيبها.. كانت تصف له الألم وخجلت من لون أصابعها التي اصطبغت بالسواد من عصر الرمان..
دكتور لا تظن أني لم أغسل يدي قبل زيارتك، تعربشت شجرة الرمان واليوم انتهيت من صنع دبس الرمان فاسودت أصابعي..
ذهل الطبيب: تعربشت الشجرة يا حاجة؟ وتشكين من ظهرك.. لا أعتقد أني أقوى على صعود الدرج..
……
بعد رحيل أمي استعرت كلمات من نيرودا في مطلع وداعها فكتبت.
(أشهد أنك قد عشت.. وكما يليق بالإنسان أن يعيش.. ولم تعرفي من العمر أرذله.. أشهد أنك كنت مدرسة لنا ولأحفادك ومحبيك والأصدقاء في صنع عالم خاص لشيخوخة ملأى بالحياة والتجدد.
عشت ال70 وال80 من عمرك كما لم تعشها سيدة مثلك وكافأك الباري عز وجل بأكرم خاتمة.. حيث دعاك ليسكنك جوار بيته العتيق فطوبى لك راضية مرضية)
وطوبى لأبي وقد اختارك أما لنا وجدة لأولادنا
وكل عام وكل الأمهات والآباء بخير .. ..

ليست هناك تعليقات: