الثلاثاء، 10 يوليو 2007

قصاصات... وطيف

تفورالقهوة .. تبتعد بها عن النار، تلقي نظرة على الصغيرة، تغمغم ثم تنهر في قطع الألعاب المتناثرة في غرفة الجلوس... انتهت من إعداد القهوة.. بحثت عن فنجانها المفضل.. أتاها به صديق من إحدى دول أوروبا الشرقية.. لم تعد تذكر اسم البلد.. سكبت القهوة.. وضعته في مكان لا تصله حفيدتها.. اقتربت من الصغيرة.. هتفت حين رأتها تحاول أن تمزق ورقة بواسطة أسنانها الصغيرة.. لا يا حبيبتي، هذا ضار.
تمزقت الورقة إلى قطع صغيرة. أمسكت بإحداها وقرأت:
هذا الربيع اكتشفت عالمين ... أنت وأنت!
سرحت بالصوت! ألم يقل البعض : .... فالأذن تعشق قبل العين أحيانا!
شرعت في لملمة الأوراق قبل أن تقضي عليها الصغيرة..
قصاصة كتب عليها بخط أنيق :
صباحا رائقا للسوسنة الرائعة، كم هي مدهشة مناخاتك ورائع السفر معك وإليك..!
سكنت حركة الصغيرة.. تتمعن في وجه جدتها..
كأنها تتسائل: لماذا تبدو على غير عادتها.. هل ستغضب مني لأنني مزقت الورقة؟
بادرت الصغيرة إلى جمع القصاصات المنتشرة على السجادة، تناول جدتها واحدة تلو الأخرى..
تسمع صوتها يقرأ بارتعاش:
من سيقول "أحبك" أولا؟ هل لي أن أكون من يقولها أولا؟
صباح الورد.. ما زال الحبيب مغمضا جفنيه على حلم جميل؟ كم تستولي علي روعتك!
أقود سيارتي وحيدا.. أفتقدك.. أحب فيك كل هذه الحكمة والجنون.. أحتاجك وأريدك!
ليس عندي مؤونة تسد عطشي إليك.. الآن فقط هطل المطر..صباحا طيبا يا غاليتي..
من أوقد النار في هشيم روحي.. ثم نفخ فيها من روحه، فاستحالت بردا وسلاما.. مفتقد لك حتى النخاع.. المكان بدونك خال!
آمل أن تكوني بخير.. أنا معك.. لا تنسي ذلك.. أحتاجك.. امنحيني فرصة أن أقبل عينيك وأتمنى لك ليلة طيبة... أتمنى أن أسعدك كل الوقت.. أدثرك بجفني وقلبي.
اقتربت الصغيرة أكثر وبدأت تربت على يديها، انتبهت لها، رغم الجمر الذي أحرق عينيها امتدت ذراعيها، احتضنت حفيدتها بشغف حزين. رفرفت قدمين صغيرتين، فتبعثرت القصاصات.
طيف..
يبحث بين أوراقه عن ورقة أعدها للمحاضرة التي ينبغي عليه تقديمها لطلابه اليوم.. يتفحص الأوراق.. ويهمس لنفسه: يجب أن أتفرغ يوما لغربلة هذه الأكوام.. هناك أوراق لم يعد لحفظها ضرورة.. ورقة مكرمشة .. هناك من عبث بها.. وفكر بإلقائها في سلة المهملات.. لسبب ما تراجع.. ربما أكون أنا! تسائل بينه وبين نفسه... فرد الورقة بعناية.. داهمه الخط المكتوب بعناية بحبر سائل أسود.. امتدت يده إلى المقعد استلقى وبدأ يقرأ:
برد في نيسان يفتك في حناياي وتهطل مع أمطاره مواجع تدفع بي إلى البحث عنك.... أتراني بت أقرض الشعر؟
يباغتني طيفك... أرمق الهاتف... سأكتب إليك الآن.. ربما يكون منشغلا بأسرته؟... أو بكتابة نص أو بحث ما... أؤنبي.. لأعود للانشغال في قراءة نصوص الطلاب وتحريك الرز مع الحليب كي لا "ينشعط" لا أحب طعم الاحتراق في الحليب!
يصمت الهاتف...أرنو إليه بعتب..
يتنهد وجع أزلي لجرح مفتوح... غدا سأذهب لصالون الحلاقة.. سأقصر شعري... لأنك لا تحبه قصيرا!
أفتقدك في غمرة انشغالي...
بالأمس دعوت الفريق الذي أعمل معه، إلى تناول وجبة حورانية المذاق... أعددت فطائر ومقبلات من العلت والخبيزة والفرفحينا.. لم يغب طيفك عني... أفرد العجين..أصب الزيت.. أدور في المطبخ وحدي..تشوقت أن تتذوق طعامي..
أصغي لهمس نهارات لا تنسى من نيسان فريد.... يشتعل الموقد وتخفت نيرانه..
ونار أشعلها قمر نيساني.. تعصى على الانطفاء..
صفير الرياح وشجر يلوح ويتمايل من خلف الزجاج... وأنا أكتب تارة وأبحث تارة أخرى.. أطل على الطعام... وأصنع لي فنجان من القهوة.. أبحث عن أغنية فيروزية تليق بنا..
"بيقولوا الحب بيقتل الوقت.. وبيقولوا الوقت بيقتل الحب..."
ويحترق الحليب..! لم ينفع حذري ..ضيعتني فيروز بتراتيلها.. حيث أنا في البيت وحدي..أأقول وحدي؟
"ويا حلو شو بخاف إني إسألك .. كنو بعد بتحبني.. قد البحر قد الدني.. وبفزع لتضجر من سؤالي وزعلك.... "
فجأة يصله صوت تثاؤب... ينفتح باب غرفة المكتب، وسرعان ما يغيب الطيف ويتحرك كمن يبدو عليه الانشغال في البحث عن شيء ما.. يعصر الورقة بين أصابعه... ويلقيها في سلة المهملات!

جرس الإفطار

. . .
لم يمنع البرد القارص ولا الظلمة الحالكة في تلك الليلة الخوري يوسف الناصر دون الانضمام لأبناء قريته كما جرت العادة في الشهر المبارك.
وزاد من حلكة الليل سماء مثقلة بغيوم أشاعت حرارة بين جموع أهل القرية مستبشرين بموسم طيب، فأضفت أجواء احتفالية بمقدم المطرمع الشهر الفضيل مما ضاعف من متعة السهر في القرية
تدثر أبو راجي بعباءة الصوف وانطلق الى حيث يجتمع أبناء قريته (الرفيد) لا يعتبر المطر والبرد في عرف الفلاحين مصدر إزعاج.. إنه بشارة خير
وتتشارك الرفيد "شمال اربد" مع سمخ وصفد وجبل الشيخ السماء والهواء مثلما كان الخوري (أبو راجي) وإمام المسجد (الشيخ حامد العمري) يتشاركان في تقديم الخدمات لأبناء قريتهما.
كان ذلك في البدايات من قرن مضى.. قبل وضع مخطط سايكس-بيكو قيد التنفيذ
اجتمع أهل القرية من الشيوخ والشباب تلك الليلة في واحدة من بيوت القرية
(عادة..يتفق على المكان في نهاية السهرة أو قد يقوم أحد أبناء القرية بتوجيه الدعوة الى بيته)
دارت القهوة.. وتداولت جموع الفلاحين في تلك الليلة أخبار الزرع والماشية.. واستمعت الى أنباء الحرب.
لأيام مضت
حجبت السماء الملبدة بالغيوم الشمس عن القرية وغاب القمر
وأقعد المرض إمام المسجد عن رفع الآذان.
حار الصائمون في تحديد وقت الافطار والسحور!
في تلك الليلة..وبكل براءة الريف وعفويته تساءل شاب موجها الحديث للخوري: تعلم أن الإمام عافاه الله مريض، والسماء غائمة مما يجعلنا غير قادرين عن تبين غياب الشمس أو شروقها، فهل لك يا أبا راجي أن تقرع جرس الكنيسة في موعد الافطار ؟
راقت الفكرة الحضور من شيوخ القرية وشبابها.. وأبدى الجميع إعجابهم بفطنة الشاب.
في اليوم التالي...
عاد الخوري زميله إمام القرية للاطمئنان على صحته، وأبلغه مستأذناً مطلب الشباب، انشرحت أسارير الإمام، وأثنى على الفكرة بتلقائية ابن القرية .
ذلك المساء.. نادى أبو راجي الصائمين من أهل قريته للإفطار بقرع جرس الكنيسة.. دأب على ذلك طيلة شهر رمضان المبارك، إلى أن سمعت القرية الإمام مكبرا لصلاة العيد!

الرفيد: قرية في الشمال من الأردن

سرفيس


أغادر سيارة السرفيس عند الدوار...
اختلس النظر إلى الكتب المفروشة على الرصيف..
الصغيرة تنتظرني في الحضانة...لا وقت للتوقف عند الزرعيني
اجتاز الشارع.. ألمح محل جوزيف النصراوي.. أراه يعد ساندويشات النقانق الشهية..
أتذكر طفليّ العائدين من المدرسة.. أزيد من سرعتي في المشي.
في الحضانة تنشج الصغيرة... تلقي بنفسها بين ذراعي.. أمسح دموعها بوجهي مبتلعة دمعي..
أعلق حقيبتها باليد التي تحمل حقيبة الأوراق والدفاتر وأحملها باليد الأخرى وأذهب.
في الطريق أخبرها بأن علي أن أعد الطعام وأغسل الملابس..
وسأدير لها التلفاز لتستمع بالصور المتحركة..
أحاول الاعتذار لها لعدم توفرالوقت للعب معها.
أعثر أخيرا على مفتاح البيت..
كل دقيقة محسوبة.. أدلف المنزل..
منظر البيت العام يبدو للداخل مرتبا ونظيفا.. استطعت أن أجعل أولادي يرتبون أسرتهم قبل الذهاب للمدرسة وأحرص على غسل أكواب وصحون خلّفها إفطار الصباح، أضع الصغيرة على سجادة غرفة الجلوس.. وألقي لها ببعض الوسائد على الأرض..
أفتح التلفاز وأخبرها عن الأعمال التي علي إنجازها فترة بعد الظهر، تنظر لي تبدو أنها فهمت ما أقول.
أعد لها قارورة الحليب.. وبصحن صغير أضع أمامها قطعة من كعكة..
صنعتها مساء اليوم السابق..
أرص الكتب والدفاتر وأوراق الطالبات على طاولة السفرة، في انتظاري الليلة تصحيح مئة وخمسون ورقة، أتجه على الفور إلى المطبخ.
أجمع الملابس والمناشف المتسخة استعدادا للغسيل.. أبدأ بتسخين الطعام..
أكتشف أنني ما زلت أرتدي ملابس الخروج..
أسارع لتغييرها كي لا تتسخ..
أختلس النظر للصغيرة وابتسم حين ألمح الأقدام الصغيرة تلوح في الهواء.. وبكفيها وأسنانها تقبض على قارورة الحليب!
يزعق الباب ويدخل الصغار مثيرين ضجيجاً لا يختلف عن ضجيج تلامذتي حين يدخلون الصف كل صباح.. كم أراها الآن محببة..
انهماكي بالعمل داخل وخارج البيت ومتابعة الأولاد في الدروس واللعب وأثناء مشاهدة التلفاز، للاسف أفقدني في بعض الأحيان متعة التعرف على التغييرات والتحولات الظريفة التي يمر بها الأطفال..
يدور الحديث حول ملاحظات المعلمات أثناء تناول طعام الغذاء.. يلهون قليلا..
بعدها تتحول طاولة السفرة إلى طاولة للدراسة.. تتوزع عليها الكتب والدفاتر..
أتنقل بين صغيرين يعدان واجباتهما المدرسية وطفلة تبحث عمن يلهو معها.
يقترب الظلام.. يغتسل الصغار ويجلسون لمشاهدة التلفاز..
أسمع لغوهم من المطبخ.. يتصاعد اللغو إلى شجار..
ألقي ما بيدي وأسارع لفض الاشتباك.. تقترب الساعة من الثامنة..
أكون قد أنتهيت من غسل الملابس والصحون وإعداد الطعام لليوم التالي.. وهذا موعد إطغاء النور وإيقاف التلفازاستعدادا للنوم.. وتمسي طاولة السفرة مكانا لتصحيح الأوراق وتحضير برنامج حصص دروس اليوم التالي.. استمع أثناءها لفيروزيات منتقاة.. في العاشرة ألملم الأوراق.. أفتح التلفاز أتابع نشرة الأخبار وانتظر فيلم السهرة.. بعد يوم حافل أقضيه مع الصغار في المدرسة والبيت.. أشعر بحاجتي للإصغاء لما يتحدث به الكبار / فالزوج يعمل في مدينة بعيدة يحضر ليوم واحد في الأسبوع فقط / إن لم يرق لي الفيلم أنتقل لكتاب أقرأه.
الساعة الخامسة صباحا..
أعد للصغيرة وجبات الحضانة وللطفلين الساندويشات..
أحضر الحليب والبيض للإفطار وأعد قارورة الحليب.. لأبدأ في إيقاظ الجميع..
حافلة المدرسة التي ستقلهم للمدرسة ستحضر في السادسة والربع.. أساعدهم في ارتداء ملابس المدرسة ، أرتدي ملابسي على عجل وأبدل ملابس الصغيرة..
ينطلق زامور عال..
يركض الصغار
لا تنس المعطف
لا تخلعي الطاقية عن رأسك
أحمل حقيبتي المثقلة في الأوراق وحقيبة الصغيرة وأنطلق مسرعة..
فالحصة الأولى تبدأ الساعة السابعة.
زارتني جدتي ذات مرة.. أقامت لدي ثلاثة أيام.. سألتني بشفقة بعد أن خلد الصغار للنوم وشرعت بتصحيح الأوراق: ستي.. هل يبقى لك ذهن للقراءة والكتابة.
في يوم كنت أقرأ في كتاب.. جائني الصغيران وبنبرة اتهام سألاني معا : ماما أتحبين فيروز ؟
أجبت: طبعا.
ثم أعقباه بسؤال تعمدا فيه إحراجي: ولكنها قليلة أدب.. سمعناها تقول لجدها وك ياجدي، أترضين أن نقول لجدي "ولك" ؟؟؟
فجأة وجدتني بمواجهة راشدين يقفون لي بالمرصاد..إن ضبطت متلبسة بالاستماع لأغنية " تافهة " أو أصغيت لحديث صديقات عن المستخدمات الأجنبيات!

درج الورد


!...إنهم جيراننا في الدرج كنا متجاورين على درج واحد.. لم نغادر الدرج بعد أن تزوجنا.. أردنا لأولادنا أن يلعبوا ويكبروا في حارة الدرج.. وهاهم الآن يغادرون الحارة!
لم تعد الحارة كما كانت عليه أيام زمان
تهمس بين وبين نفسها.....
ثمة حارات في عمان تقع على الدرج.. فالدرج أقدم وسيلة مواصلات.. هذا ما تردده دوما صديقتي الفنانة والمهندسة المعماري....
الأدراج تصل ما بين البلد والسوق.. مثلما تصل ما بين الجيران
للجيرة في الدرج نكهة خاصة..
كلما ارتقيت بضع درجات.. ستدهشك أبواب وبيوت.. فالبيوت تشبه ساكنيها.. والأبواب تشي بمفاتيح أصحابها.. .التجول في عمان القديمة.. يعني الانتقال من جبل إلى جبل.. أو من البلد إلى الجبل الدرج وسيلته.. واستراحات تتيح للصاعدين الجلوس إن نالهم تعب .وللتجول في عمان القديمة متعة خاصة.. يمتزج في داخل النفس الاندفاع الطفولي نحو الاكتشاف مع الرغبة الجوانية للإنسان في البحث في الزوايا المنسية عما يقوده لفضاءات جديدة تبعث الدهشة، كلما هبط أو صعد الدرج..
وبالرغم ما نال تلك الأماكن الحميمة من هجر وإهمال.. إلا أنها ما زالت تحكي للعابرين كيف ذابت درجاتها من تعاقب خطوات أهل الدرج والمارة..
كان الدرج الحجري للأطفال ملعبا.. يلوذون به عن الحر والنهر.. ويذود عنهم نهش السيارات الماجنة لأجساد غضة لم تتعلم بعد معنى الكوابح...تشرع شمس الصباح أبواب البيوت فيندفع الصغار إلى مدارسهم والكبار إلى أعمالهم.. يلتقون في الدرج.. يتبادلون التحيات..
ثمة دردشة لا تنتهي بين جيران الدرج..! بعد ذهاب الزوج والصغار للعمل والمدرسة.. تتحرر الأمهات لساعات..تلتقي النساء على الدرج.. يجتمعن بعيدا عن البيت ولا يبتعدن عن متابعة مسؤولياته.تدور القهوة ، بتلقائية في كل يوم جديد قهوة جديدة بمذاق مختلف.....تتبادل النسوة أخبار الدرج.. يتهامسن بأخبار سكان الأدراج المجاورة إن كان هناك ثمة حكاية شيقة وتعمل أيديهن في تنظيف ضمة بقدونس وتقشير بطاطا أو نسج الصوف.في الظهيرة . . يحتل الأطفال الدرج.. إنه الملعب ، البنات والأولاد، كل له لعبته.يبدأ العمل لدى الأطفال في اللحظة التي يصل الواحد منهم باب بيته ؛ يلقي بحقيبة كتبه إلى جوار الباب.. ويسارع للانضمام لرفاق الدرج..
مع اقتراب عودة الأب يتسلل مزيج من روائح أطعمة مختلفة.. فيهرع كل إلى بيته .في أماسي الصيف.. الدرج مكانا للسهر والسمر.تتسابق الفتيات لشطف الدرج ويدور دلو ماء يروي نباتات مزروعة على جنباته.. وتفرش البسطوالسجاجيد الصغيرة.. وبضع كراسي من القش المجدول..
غالبا ينفرد الرجال بالدرج في الجلسات المسائية.. يلعبون الطاولة ويدخنون الأرجيلة.. وصوت مذياع يبث الأخبار تباعا.. يرتفع صوت الحوار.. يصل في بعض الأحيان إلى النزاع.. تنتهي بإلقاء تحية المساء أو قد تمتد حتى الصباح.اليوم...هناك من هجر الدرج إلى الضواحي الجديدة.
إلا أنه قد يحلو له بين الحين والآخر أن يستحضر صحبة الدرج..
يرنو إلى عشبة صغيرة لم تطالها الأقدام..
يبحث عن حكاية قديمة..
قد يصادف أطفالا يلعبون.. أو محبيَن لاذا عن أعين الفضوليين...أجمل ما في الأدراج أنها لابد أن تفضي إلى مكان مختلف... بعضها يقود إلى ضجيج الأسواقوآخر قد يفضي إلى طرقات يقيم فيها السكون...
الدرج الحجري يفسح لمياه الأمطار بالتسلل من شقوقه.. تلتقي قطرات المياه بحنين البذرة للإزهار فتعشوشب الانحناءات.. وتطل البهجة من الدرج كل ربيع.....في ثقافة حارات الادراج.. الدرج جزء من البيت.. يتوزع الجيران الأدوار لإبقاءه نظيفا.. مضيئا بنباتات وشجيرات تصطف على جنباته.. ‍‍.وتتشابك أشجار الزنزلخت بشجيرات الياسمين لتلقي بظلالها على المارة وعلى مدخل البيت.لكل مكان ثقافته.. يستل مفرداتها وحكاياتها من تفاصيل المكان..
ولساكني البيوت الواقعة على الدرج في المدن الجبلية أغانيهم ‍. التجول في الطرقات القديمة وخاصة الأدراج.. متعة وفسحة للتأمل ومكان نواري به حزننا عن أعين الفضوليين عند غياب صديق أو مفارقة عزيز غال.. يحضننا بظله ويحتفظ بسرنا
في كل مرة أجتاز فيها درج عماني قديم..
يدندن صدى أغنية فيروزية قديمة...
ورق الورد يغمر بيتناودرج الورد ساحب ورانا
وبين الورد طاير بيتنا
وتحت الورد خيمة هوانا
......
حبينا سنين ونطرنا سنين
وعدنا تلاقينا ع درج الياسمين

تجوال ذاكرة


البائع في المكتبة يراكم أمامها كتب لكاتبات عربيات من الجزيرة العربية ومن مشرق ومغرب البلاد العربية..
يسهب في وصف كتابات النساء العربيات وشجاعتهن في تعرية ذواتهن..
في السبعينيات انتشرت ظاهرة الميني والميكروجيب بشكل سافر في بلادنا واجتاحت المدن الصغيرة.. لم ترق لها هذه الموضة وهي معلمة وأم شابة كي لا ينشغل
محدثها في التسلل إلى خصوصية تنأى بها عن الشارع.
أحبت من الملابس ما يمنحنها الجمال من غير تطرف أو تزمت...في معرض للصور عن الأدوار التي تقوم بها المرأة.. أقامته واحدة من النساء المهتمات بالدعوة للتحرر والمساواة..
شمل المعرض صورا لنساء قرويات يقمن بإعداد الخبز على نار الحطب وأخريات يعملن في الحقول والحصاد.. أصغت لهمس النساء المسنات اللواتي جيئ بهن خصيصا لمناقشة قضية اضطهاد وعبودية المرأة..كن يتنهدن ويرددن: سقالله أيام كنا نأكل الخبز الطازج من قمح الأرض الذي نزرعه ونحصده بأيدينا..اليوم الذي يذهب لا يعود أبدا
وتابعت البحث في جديد غابرييل جارسيا وإيزابيل الليندي.. التقطت مجموعة بيرم التونسي.. ووقعت عيناها على مجموعة قصصية قصيرة لميلان كونديرا.. أضافتها لمجموعتها المختارة.. إنها المرة الثالثة التي تقتني فيها رواية كونديرا هذه.
نحت الروايات النسائية جانبا.. روايات بات الغرب مغرم بترجمتها وتوزيعها على نطاق واسع.. من أجل التأكيد على تخلف مجتمعاتنا ولتبرير الوصاية الغربية الأمريكية.. هل التقينا من قبل.. أشعر أني التقيتك.. وسمعت هذا الصوت من قبل.
التفتت .. لم يكن هناك غيرها وغير الشاب الذي صعد معها إلى قسم الروايات والأدب في مكتبة مدبولي في شارع طلعت حرب..غاصت بين عناوين الروايات وكتب الشعر..
لم تلحظ الرجل المسن الذي يقف إلى جوارها : هل نعرف بعض من قبل؟
هزت رأسها بالنفي ورددت بصوت يبحث في الذاكرة: عفوا.. لا أذكر أني التقيتك.. أو ربما نكون التقينا في أحد الأماكن العامة.. أحيانا يحدث هذا.. ما يجعلنا نعتقد بأننا نعرف من نلتقيهم.... عرفته بنفسها..عرف بنفسه، لم تسمع باسمه من قبل..
تابعت مبتسمةة: أجمل ما في التقدم بالعمر.. أننا نتحرر من الخوف الذي يجعلنا نخفي أسماءنا وكنية عائلتنا وأين نقيم.. وخاصة بالنسبة للفتيات.. لأننا ونحن في مرحلة الصبا نخشى الإيقاع بنا من وله الشباب المتهور..بيد احتضنت مجموعة الكتب التي اختارتها.. ومدت يمناها تستأذن وتصافح الرجل بدا لها وكأنه يبحث عنها..
تركت مكتبة مدبولي ووقفت على الرصيف.. تلفتت تبحث عن مقهى تتصفح فيه الكتب التي اختارتها..
اكتشفت أنها تقف مقابل مقهى جروبي، هذا المكان الذي شهد غراميات شخوص إحسان عبد القدوس ويوسف السباعي في روايات شغلت حياتنا في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي..
اختارت طاولة صغيرة بعد أن طلبت القهوة مع بضع حبات من الشوكلاتة سارعت إلى تصفح كتاب كونديرا.. بحثا عن فكرة معينة..
قرأت: تكمن قيمة الإنسان البشري.. حين يتجاوز الإنسان نفسهليس أجمل من أن تكون في الغير.. أن تعيش في ذاكرة أخرى..أن تكون خارج نفسك...
بأنفاسها أزاحت الرغوة الكثيفة من على وجه القهوة....
تجهد في استحضار وجه الرجل الذي التقته في مكتبة مدبولي.. وجه رجل تجاوز الستين..فكرت أن تعيد للوجه نضارة الفتيان.. فتى في السادسة عشر من عمره..ينتظر أمام حافلة.. تتقدم للصعود فيبتعد قليلا مفسحا لها الطريق..ترتسم طيف ابتسامة على وجهها وتتخذ لها مكانا مجاور لفتاة تكبرها.. يبدأ معاون السائق بجمع القطع النقدية.. يتجاوزها..
تنده عليه بصوت خجول:لو سمحت؟تأتيها الإجابة: مدفوع تسأل بحذر: من دفع؟
يشير إلى الفتى الجالس خلفها..ترتبك.. لا تعرف الفتى..
لمحته منذ يومين فقط يقف عند موقف الحافلات..
تعتذر : لو سمحت تفضل.. لا أريد لأحد أن يدفع..صوت ارتطام على أرضية الحافلة....وقطعة نقدية ملقاة تحت قدميها..
هبطت الحافلة وتوجهت إلى البيت...انشغلت مع شقيقاتها في الدراسة واللهو ونسيت أمر الفتى.صباح اليوم التالي..
صعدت الحافلة واتخذت مقعدا خلفها صعد الفتى.. وبلمح البصر ألقى بحجرها مغلف انتفخ بالأوراق..
يبدو أن الفتى لم يغمض عينيه ليلة أمس..ولكن ماذا ستفعل بهذه الرزمة من الأوراق والتي لا تعرف ما كتب بها!..
لا يمكنها إخفاءها عن أعين البنات في المدرسة.. وهي لا تعرف الفتى ستكون عرضة لأقاويل لمجرد أنها نالت إعجاب فتى لم تعرفه ولم تعده بشيء.... ..
غادرت الحافلة والمغلف الخطير ..رغم أنها بدأت بتقطيع المغلف إلى أوصال.. تمنت لو تعرف ما حوته الأوراق..
بدأت تذر النتف الورقية في الطريق إلى أن وجدت نفسها تقف أمام بوابة المدرسة..
زعقت سيارة وهي تهم باجتياز البوابة..
التفتت .. نقدت النادل في مقهى جروبي..
أشارت لسيارة أجرةلمحت الفتى المسن يقف على الرصيف المقابل خارجا من مكتبة مدبولي متأبطا مجموعة من الكتب
8 - 3 - 2007 .. .